حسام جزماتي: رياض المالكي في سيرتين ذاتيتين

الثلاثاء 20 كانون الأول/ديسمبر 2022

لا يكتب أحد مذكراته مرتين مختلفتين دون دوافع معتبرة. وهو ما يبدو من الكتابين المتباعدين اللذين نشرهما النائب والوزير السوري السابق رياض المالكي؛ الأول بعنوان «ذكريات على درب الكفاح والهزيمة» وصدر عام 1972 عن مطبعة الثبات، بتوسّط، كما يبدو، من دار دمشق التي أوردت قائمة ببعض منشوراتها على غلافه الأخير، وكانت مكتبة «تقدمية» معروفة؛ في حين صدر الثاني عن دار الفكر، الدمشقية المحافظة، وهو أمر لا يخلو من دلالة تُضاف إلى عنوانه «العودة إلى سواء السبيل»، ناهيك عن ربع قرن مرّ قبل ظهور الكتاب الجديد عام 2008.

في الكتاب الأول يقدّم رياض معلومات أسرية تفيد في فهمه، وتسلط الضوء على طرف من حياة شقيقه الضابط البارز عدنان. فقد ولدا لمزارع دمشقي يملك أرضاً ليست كبيرة في الغوطة الشرقية، يضطر إلى الإشراف عليها بنفسه. تنحدر العائلة من سلالة من الفقهاء والمفتين، قبل أن يظهر في جيل أحدث ضباط في الجيش العثماني، كان منهم ثلاثة من أعمام عدنان. بينما درس رياض الحقوق وعمل محامياً وشغل مناصب متوسطة في نقابة المحامين. اعتقل الشقيقان في عام 1952 لاتهامهما بالتحضير للانقلاب على حكم أديب الشيشكلي، وهو أمر لم يكونا بعيدين عنه على كل حال.

في صفحات طويلة يكتب رياض عن تجربته في سجن المزة، أشهر معتقلات سوريا وقتئذ، راصداً ظهور طفرة في سطوة الأجهزة الأمنية، وبوادر تشكل أنظمة القمع والتعذيب والتلاعب بالقضاء وبالطبابة العسكرية خدمة للديكتاتورية. ولرسم مشهد التضاد بين دولة القانون، التي كان يبنيها سياسيون وطنيون ومؤسسات مدنية حديثة ناشئة، وبين حكم العسكر المتنامي، ينقل لنا صورة زيارة شارك فيها، ضمن وفد رفيع من نقابة المحامين، لرئيس الدولة الشكلي اللواء فوزي سلو، الذي اتخذه الشيشكلي واجهة في البداية، بهدف المطالبة بالإفراج عن محام كان معتقلاً لأسباب سياسية.

يقول المالكي إن اللواء، الذي رحّب بزواره بشكل جميل أولاً؛ فوجئ عندما سمع مطلبهم وسأل باستغراب: «وما علاقتكم أنتم بالأمر؟»، ليضطروا إلى أن يشرحوا له أنهم معنيون بما حصل لزميل، عضو في النقابة، جرى سجنه بطريقة مخالفة للقانون. فأجابهم رئيس الدولة ساخراً: «قانون؟ مرحبا قانون!.. نحن دسنا بأقدامنا الدستور الذي تسمّونه أبا القوانين، ولم يرتفع أي صوت في البلد. لا. لا. الله يرضى عليكم، فحكاية القانون يمكن أن تبحثوا فيها لدى المحاكم في القضايا التي تتوكلون فيها؛ أما عندنا فلا مجال للبحث لا في القانون ولا في غيره، ونحن نفعل ما نشاء». ولما طالب أعضاء الوفد بتقديم زميلهم للمحكمة إن كان مجرماً أجاب سلو بحدة: «إننا سنعدمه من دون محاكمة، ولن تستطيعوا أن تفعلوا أي شيء»!

المفصل الثاني الذي يخصص له رياض المالكي صفحات عديدة من كتابه الأول هو دولة الوحدة، فقد عُيّن فيها وزيراً للثقافة والإرشاد القومي في الإقليم الشمالي، مشرفاً على مديريتي «الدعاية والأنباء» و«الإذاعة» اللتين كانتا بالغتي الحساسية عند جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، الذي قال للمالكي في أحد لقاءاتهما العديدة، إن الإعلام أهم من القوات المسلحة. وهنا يرصد الوزير التنفيذي نشاط أجهزة الإعلام في تمجيد العهد الجديد وإعلاء شأن القائد الفرد الذي لم يخفِ استياءه من تغطية وسائل الإعلام السورية لنشاطات الرئيس السابق شكري قوتلي، الذي كان يُعرف بلقب «المواطن العربي الأول» في دولة الوحدة. قال عبد الناصر إن «أجهزة الإعلام في الدول الراقية لا تسلط الأضواء إلا على الرئيس الأول الذي هو رمز للبلاد. وأوصى سيادته بأنه لا يريد، من الآن فصاعداً، أن يتكرر هذا الخطأ».

ليُضاف ذلك إلى ما هو مشهور من عيوب دولة الوحدة في سوريا مما يرصده المالكي من أعلى الهرم. كغياب الحريات وتحكم المخابرات، وانتشار كتابة التقارير الأمنية حتى بين الوزراء أنفسهم، والتمييز في حق السوريين لصالح المصريين في دمشق، وبالمقابل تهميش السوريين المنقولين إلى القاهرة من مسؤولين مدنيين وضباط.

بعد مسيرة الكفاح يصل المؤلف إلى الهزيمة في حزيران 1967، مؤكداً أنها نتيجة مستحقة لسطحية وانتهازية من تصدوا لحمل أعباء القيادة بعد الاستقلال ولجؤوا إلى بهلوانيات كلامية، عاجزين عن بناء مؤسسات دستورية وحياة سياسية، معتدين على الحريات وعلى كرامة الإنسان. لكنه لا يفقد الأمل، لأن «الإمبريالية الأمريكية ليست قدر العالم»، كما أن إسرائيل ليست قلعة منيعة لا تُقهر. متفائلاً بالمقاومة الفلسطينية الناشئة لتصبح مثالاً للجماهير العربية كي تستفيق.

أما كتابه الثاني فيبدأ بالإهداء «إلى الذين ضلوا ثم اهتدوا»، ويقدّم له بأنه وضعه بالارتكاز على تجربتين مهمتين مرّ بهما في حياته؛ الأولى عندما ترشح للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق، في ربيع عام 1957، في مواجهة الدكتور مصطفى السباعي، المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين؛ والثانية حينما «حللت ضيفاً لدى الرحمن في البيت العتيق، يوم سعيت لتأدية فريضة الحج». مبيّناً أنه من أفراد جيل «اعتقد كثيرون من أبنائه، خطأً، أن “علمنة” الدولة، وفصل الدين عن السياسة، سيساعدان على تحقيق الوحدة الوطنية، والظفر في معارك التحرير والبناء». لكن مراجعة الحسابات، بعد عدة عقود، قادته إلى أن العرب يستطيعون العودة إلى ممارسة «دورهم الحضاري التليد» إن عقدوا العزم على ذلك «فجمعوا صفوفهم، وحشدوا طاقاتهم، واستعادوا وحدتهم، وانكبوا على العلم والعمل بجد ودأب، وأدوا فريضة الجهاد بإخلاص، مهتدين بنهج الرسول العربي العظيم، وسيرة صحابته الكرام، وتابعيهم».

بخلاف كتابه الأول المليء بالأحداث، تطغى على الثاني الأفكار والتأملات التي يبدؤها من «حوار على جبل عرفات» يصل إلى دعوة العرب والمسلمين إلى أن «يعودوا إلى رشدهم، وينفضوا عن كواهلهم غبار الذل»، وينهضوا للذود عن حقوقهم والوقوف في وجه الأعداء، «إذا كانوا صادقي الإيمان حقاً، وجادين في طاعة الله ورسوله». في حين ينهيه، تقريباً، بنص البيان الانتخابي الذي واجه به السباعي في معركة عضوية البرلمان، يوم كان المالكي محسوباً على حزب البعث ومدعوماً من اليساريين بشكل واضح، فيما وقفت أكثرية مشيخية وإسلامية ومحافظة في صف منافسه المعمم عميد كلية الشريعة.

فاز رياض المالكي بنتيجة تلك الانتخابات، لكن ذلك لم يستمر طويلاً..

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات أخرى للكاتب

سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.