الخميس 5 كانون الثاني/يناير 2023
في الوقت الضائع، حتى يثبت العكس، أتى بيان مجلس سوريا الديموقراطية “مسد” ليمد يد الإدارة الذاتية الكردية إلى “كل سوري حر”، من أجل مواجهة ما تراه مسد تحالفاً بين أردوغان والأسد على خلفية اجتماع وزيري دفاعهما قبل أيام. لن نكون متشائمين إذا جزمنا بأن العكس لن يحدث، بمعنى أن البيان “الصادر في الثلاثين من الشهر الفائت” لن يلقى الانتباه أو الترحيب في مقلب المعارضة “العربية” أو جمهورها العالقَيْن في المصيدة التركية.
أكثر من البيان المذكور، قد تكون مؤثرة لدى الجمهور العربي تلك الأصوات الكردية التي راحت على وسائل التواصل تشمت بمصير المعارضة، وتحتفل بما قيل عن استعداد أنقرة إعادة مناطق نفوذها إلى الأسد، أي أنها عملياً تشمت بملايين البؤساء الهاربين من الأسد، وهذا سبب وجودهم هناك، لا حباً بأردوغان ولا حتى ولاءً لهذه المعارضة. وبؤس أحوال هؤلاء لا يبرئ قسماً كبيراً منهم سبق أن ابتهج بتوسع النفوذ التركي على حساب قسد والإدارة الذاتية، رغم حدوث التوسع كل مرة وفق مقايضة تعطي للأسد مناطق سيطرة من حساب الفصائل العربية.
كان من الأفضل بالتأكيد لو أن أصحاب الشماتة في الأيام الأخيرة وجّهوا اهتمامهم إلى ما يقاسيه أكراد “الأشرفية” و”الشيخ مقصود” في مدينة حلب، حيث تُطبِق الفرقة الرابعة “التي يقودها ماهر الأسد” الحصارَ على الحيين اللذين يقطنهما الأكراد تحت سيطرة قسد. الحصار بدأت تباشيره في الربيع الفائت، لكنه تصاعد على إيقاع التقارب بين أردوغان والأسد، لتشارف شدّته على تجويع الأهالي وحرمانه من الدواء.
ما نسوقه عن أولوية الاهتمام بمعاناة الأهالي في الأشرفية والشيخ مقصود لا ينطلق فقط من اعتبارات أخلاقية؛ هذا ما يمليه التفكير السياسي السليم في حد أدنى، إذ يقفأ العين تصاعدُ الحصار مع تواتر الاجتماعات المخابراتية بين الأسد وأنقرة، من دون نسيان تلهّف قيادة الفرقة الرابعة وما تمثّله لإنهاء “شهر العسل الكردي”. نذكّر بأن للفرقة ذاتها إرث وحشي مع الأكراد، فقد تولّت قمع الانتفاضة الكردية “عام 2004” في القامشلي والحسكة وصولاً إلى “وادي المشاريع” بالقرب من دمشق، وواهم بين الأكراد من يظن أن هذه الفرقة التي تعكس قرار السلطة على أعلى مستوى قد تغيّرت، باستثناء ما اكتسبته بأجساد الضحايا من فنون الوحشية.
تفصيل واقعي من نوع الفرقة الرابعة لا يشغل بال فئة أخرى من العرب والأكراد، أفرادُها مثقفون أو مدّعو ثقافة وسعة إطلاع. يتركز انشغال العرب منهم بإثبات ألا وجود للأكراد كشعب عبر التاريخ، وأنهم في أحسن أطوارهم قبائل ذات لهجات خاصة، غير متجانسة فيما بينها. سوريّاً، تنصرف جهود هؤلاء إلى إثبات أن الأكراد طارئون، هاجروا من تركيا قبل نحو قرن، مما لا يمنحهم أية حقوق سياسية كمجموعة عرقية.
في المقابل، وعلى التوازي بما لا يقلّ عدداً عن نظرائهم العرب، هناك مثقفون أكراد لا يقصّرون في انتقاء ما يعجبهم من التاريخ. على غرار سابقيهم، سيسردون التاريخ الذي شهد إمبراطوريات أو ممالك وإمارات كردية سيطرت على عموم المنطقة، بالطبع قبل مجيء العرب إليها، ما يجعل الأكراد السكان الأصليين بامتياز عن أولئك البدو الطارئين.
في تصاعد الجدل بين هذا التوأم من المثقفين العرب والأكراد، لا تنحدر أدواته بالمصادفة، ليُنعت العرب مثلاً بشاربي بول البعير، أو يُنعت الأكراد بالبويجية مثلاً. أي أن الجدل الذي يزعم أصحابه تقديم المعرفة بنزاهة سرعان ما يُسفر عن وجهه الحقيقي، الوجه العنصري المُسفّ الذي يعطي لصاحبه أحقيّة الهيمنة والتسلط على الآخر “الأدنى”.
لهؤلاء المثقفين جمهور واسع على الجانبين، جمهور ممن يمكن لنا اعتبارهم ضحايا بأوهام إمبراطورية. لن يكون مثيراً للسخرية، بقدر ما هو مثير للأسف، أن ما يجمع جمهور الجانبين هو ما يفرّقهم؛ يجمعهم ذلك الوهم الإمبراطوري المبني على سردية الماضي التليد، ويفرّقهم إذ يعتقد كل طرف أن له الأحقية في الماضي والمشروعية في المستقبل ليستعيد زمنه الجميل.
لا يصعب على مَن يشاء تفسير تضخم تلك الأوهام بموقع الضحايا أنفسهم، انطلاقاً من أنهم كلما ازدادوا بؤساً استحضروا ماضيهم “الحقيقي أو المتخيَّل” على سبيل السلوان. من السهل، على المنوال ذاته، فهْم أطوار الشماتة بينهم، مع إشاحة كل طرف النظر عن مصيبته، فمأساة الطرف الآخر “بوصفه خصماً” تحمل السلوان، خاصة كلّما تم تسليط الأضواء عليها ونال ضحيتها المزيد من التشفّي الذي يوهم أصحابه أنهم أيضاً في موقع المنتصر.
لا بدّ من الاعتراف بأن العداء المتبادل بين الطرفين الكردي والعربي “المعارض” تفوّق على العداء بين كلّ منهما والأسد، رغم أنه سبق للأخير أن أذاقهما الويلات. وحتى مع وضوح المقايضة بين الأسد وأنقرة، والتي يقع الطرفان ضحيتها، تروج مقولات بين الأكراد من نوع أن العودة إلى الأسد أرحم من الوقوع تحت قبضة تركيا، وراجت من قبل مقولات لدى العرب تفضّل ذهاب مناطق الإدارة الذاتية إلى الأسد على بقائها تحت المظلة الأمريكية، بزعم التصدي للانفصاليين الأكراد، وبما يعني بزعم الغيرة الوطنية أن الخطر الكردي أشدّ من خطر الأسد.
بالعودة إلى بيان مسد، لا تبدو الظروف مناسبة ليُستقبل بإيجابية، وأقل ما يقال في المناخ السائد أن الثقة بين الجانبين معدومة بالمطلق إلى درجة أنه لم يحظَ باهتمام كردي أولاً. وفق ما هو معروف أصلاً عن الإدارة الذاتية وعن المعارضة “العربية”، من المستبعد حصول تقارب بينهما تمليه المستجدات بين أردوغان والأسد، لذا أهمية أي بيان هي في النقاش الذي يستدعيه، وفي طرْق أبواب للتفكير مناسبة للمستجدات. على هذا الصعيد، ثمة جرأة مطلوبة هي جرأة الاعتراف بالمسؤولية عن أخطاء الفترة الماضية، والاعتراف بأن المسؤولية غير حصرية لطرف، مثلما المظلومية غير حصرية ولا يحق لأحد منهما احتكارها.
لعلنا أيضاً نهوّن مما حدث خلال أكثر من عقد بالحديث عن الأخطاء، لأن الأخطاء لم تكن عارضاً مخالفاً للتوجهات والمشاريع الأصلية، وستبقى مستفحلة ما لم تنظر المعارضة إلى المسألة الكردية كاستحقاق وطني، وما لم يضع الأكراد المطلب الديموقراطي في أعلى أولوياتهم. إن بديهية وجود مصلحة مشتركة للضحايا غير كافية بحد ذاتها، وإلى أن تصبح درساً وعبرة وحده الأسد من يحق له القول: تعالوا نشمت بالأكراد، ثم تعالوا نشمت بالعرب.
المصدر: المدن
- عمر قدور كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.