السبت 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
سوريا اليوم – حلب
شهدت الساحة السورية خلال الأيام الأخيرة من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري سلسلة أحداث متزامنة ومترابطة بين التحركات السياسية في موسكو والمعركة الميدانية الكبرى في حلب.
في العاصمة الروسية توسعت “منصة موسكو” للمعارضة السورية بانضمام شخصيات بارزة ذات خلفيات متنوعة، ما يعكس جهوداً روسية لتشكيل معارضة أكثر شمولية.
أما في العاصمة الاقتصادية لسوريا، فقد أطلقت المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا عملية عسكرية غير مسبوقة في ريف حلب الغربي، تحت مسمى “ردع العدوان”، انتهت بسيطرتها الكاملة على مدينة حلب دون قتال كبير أو سقوط دماء تُذكر، بعد انسحاب قوات النظام السوري.
في هذا التقرير السياسي، تناقش “سوريا اليوم“، كيف يثير هذا التقاطع بين الحوار السياسي في موسكو والتطورات الميدانية في حلب تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الأحداث جزءاً من مخطط روسي تركي منسق للضغط على النظام السوري ودفعه نحو تنازلات سياسية، وما إذا كان قطار التسوية السياسية سيصل أخيراً إلى العاصمة السورية دمشق.
منصة موسكو: توسع سياسي يجذب أطيافًا جديدة
توسعت “منصة موسكو” في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 عبر انضمام شخصيات جديدة بارزة، مما أضاف عمقاً أيديولوجياً وسياسياً للمنصة. هذه الخطوة تأتي في وقت حساس، حيث تسعى روسيا لتعزيز دور المنصة كواجهة معارضة قادرة على تمثيل أطياف واسعة من الشعب السوري.
أبرز الوجوه الجديدة في قيادة المنصة، هو عبيدة نحاس، وهو قيادي سابق في جماعة الإخوان المسلمين، كان مقرباً من زعيمها البارز الأسبق علي صدر الدين البيانوني، إلا أنه اتخذ خطاً مختلفاً في السنوات الماضية، ويُعتبر ممثلاً للتيار المحافظ التجديدي، إذ يقود اليوم “حركة التجديد الوطني” التى تستقطب جيلاً جديداً من المعتدلين، وتقدم نموذجاً لإسلام سياسي متجدد يسعى للحوار والانفتاح، متموضعة في يمين الوسط في المشهد السياسي السوري.
كذلك ظهر صلاح درويش، كقيادي معتدل، يمثل الصوت القومي الكردي، وشقيق الراحل عبد الحميد درويش أحد الزعماء التاريخيين للحركة الكردية السورية، وخليفته في زعاية الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، ما يضيف للمنصة بعداً كان غائباً. انضمامه يشير إلى توجه نحو تمثيل القضايا القومية ضمن إطار وطني شامل، وهو ما يعزز شرعية المنصة سورياً وإقليمياً.
أما قدري جميل، رئيس منصة موسكو، الذي يمثل التوجه اليساري التقليدي، فبقيادته “حزب الإرادة الشعبية“، الذي وُلد من رحم الحزب الشيوعي السوري بزعامة قائده التاريخي في سوريا الراحل خالد بكداش، يواصل دوراً محورياً في الحفاظ على البعد الاجتماعي والاقتصادي في خطاب المعارضة، وتوجهه البراغماتي يمكّنه من التنسيق مع أطياف مختلفة لتحقيق حلول عملية، علماً أن الحزب كان مشاركاً في السلطة عام 2012، أي خلال الأزمة السورية، قبل أن يخرجه النظام منها.
وكذلك فإن انضمام شخصية وطنية كحسن هاني الأطرش من السويداء في جبل العرب جنوب سوريا، يكمل صورة المشهد المتنوع لمنصة موسكو، المعروفة داخل البلاد باسم “جبهة التغيير والتحرير”، والتي أدخلت المنصة مع توسعها تحديثاً على وثائقها.
هذا التنوع يُظهر أن المنصة تسعى إلى تقديم نفسها كبديل سياسي شامل، بعيداً عن الاصطفافات الأيديولوجية الضيقة، وهو ما يرفع من احتمالات قبولها كشريك في أى حل سياسي مقبل.
حرب دون دماء: انقلاب ميداني في حلب
في الوقت الذي كانت الاجتماعات السياسية تُعقد في موسكو، وبالتزامن مع مؤتمر صحفي لمنصة موسكو الموسعة بشكلها الجديد، أطلقت المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا عملية “ردع العدوان” في ريف حلب الغربي.
خلال أيام، انسحبت قوات النظام السوري من مدينة حلب، لتتمكن المعارضة من دخولها دون قتال كبير أو خسائر دموية.
هذه السيطرة السريعة تثير العديد من التساؤلات حول أسباب الانسحاب المفاجئ للنظام وغياب الدعم الروسي التقليدي.
الدور التركي في العملية كان واضحًا. أنقرة، التي تسعى لترسيخ نفوذها في شمال سوريا، قدمت دعماً عسكرياً مباشراً للمعارضة. لكن الأهم هو الغياب الروسي اللافت عن المشهد. روسيا، التي كانت سابقاً تقدم غطاءً جوياً للنظام في معاركه الحاسمة، اختارت هذه المرة مراقبة الأحداث من بعيد.
هذا الانسحاب المريب للنظام، وغياب القصف الجوي الروسي، يشير إلى احتمال وجود تفاهمات ضمنية بين موسكو وأنقرة. قد تكون هذه التفاهمات تهدف إلى استخدام حلب كورقة ضغط على النظام لدفعه نحو قبول ترتيبات سياسية جديدة.
روسيا وتركيا: تنسيق محسوب أم مصالح متقاطعة؟
لطالما كانت العلاقة بين روسيا وتركيا في الملف السوري متشابكة ومعقدة، تجمع بين التعاون والتنافس. في هذه المرحلة، يبدو أن موسكو وأنقرة تتحركان ضمن تفاهمات محسوبة تهدف إلى تحقيق أهداف مشتركة.
روسيا، التي ترغب في تحقيق استقرار سياسى يضمن مصالحها طويلة الأمد، تدرك أن النظام السوري لم يعد قادراً بمفرده على استعادة السيطرة الكاملة على البلاد. ومن هنا، قد تكون روسيا مستعدة لاستخدام المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا كأداة ضغط على النظام لدفعه نحو تقديم تنازلات، بالرغم من أنها دأبت على قصف هذه المعارضة طوال السنوات الماضية.
تركيا، من جهتها، تسعى إلى تعزيز نفوذها على الأرض، وتقليص دور الفصائل الكردية المسلحة في شمال سوريا. التعاون مع روسيا في هذا السياق قد يحقق مكاسب لأنقرة دون الدخول في مواجهة مباشرة مع النظام.
النظام السوري تحت ضغوط متزايدة
في ظل هذه التطورات، يبدو النظام السوري في موقف أضعف من أي وقت مضى. خسارة حلب، دون قتال يُذكر، تعكس تراجعاً في قدراته العسكرية، مع محدودية الدعم الإيراني الذي كان يشكل ركيزة أساسية له في معاركه السابقة.
وتزداد أهمية هذه التطورات في ظل الاتهامات الموجهة للنظام في دمشق بتعطيل المفاوضات مع المعارضة، والعملية السياسية بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 2254، بما في ذلك تعطيل أعمال اللجنة الدستورية التي تضم النظام والمعارضة وتنعقد عادة في جنيف.
من جهة أخرى، تُظهر روسيا، أهم حلفائه، تراجعاً عن دعمه المطلق، مما يشير إلى نفاد صبر موسكو من عناد النظام ورفضه الانخراط في ترتيبات سياسية حقيقية.
هذه الضغوط المتزايدة قد تدفع النظام إلى تقديم تنازلات تشمل:
- القبول بعقد لقاء بين الرئيس بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
- الانخراط في حوار جاد مع المعارضة، بما في ذلك منصة موسكو.
- الموافقة على ترتيبات تضمن الدخول في حوار سياسي سوري سوري للدخول في مرحلة انتقالية، كما نص عليه القرار 2254، الذي يرفض النظام الاعتراف به.
من موسكو إلى حلب: هل يصل الطريق إلى دمشق؟
ما بين الحوار السياسي في موسكو والانتصار السريع في حلب، تتضح معالم استراتيجية جديدة لإعادة رسم المشهد السوري.
فقد عرضت “منصة موسكو” تحريك المياه الراكدة في الملف السوري، حين اقترحت تنظيم حوار “موسكو 3″، على غرار حواري موسكو 1 وموسكو 2 قبل أكثر من 10سنوات، اللذين كانا لقاءين تشاوريين شارك فيهما ممثلون عن النظام والمعارضة.
حوار “موسكو 3″، إن عُقد، قد يكون مقدمة للوصول إلى صيغة حوار سياسي سوري سوري شامل بدمشق، تتمخض عنه حكومة انتقالية، وتعديلات دستورية وانتخابات تشريعية ورئاسية تشارك فيها جميع الإطراف السورية.
روسيا وتركيا، عبر تفاهماتهما الضمنية، تتحركان لدفع النظام والمعارضة نحو طاولة الحوار. توسع منصة موسكو يهدف إلى تقديم بديل سياسي قادر على تمثيل شرائح أوسع من السوريين، بينما تشير التطورات الميدانية إلى أن الترتيبات العسكرية تُستخدم كأداة لتسهيل الحل السياسي.
يبقى السؤال الكبير: هل الطريق الذي بدأ من موسكو إلى حلب سيصل في نهايته إلى حل سياسي في دمشق؟ أم أن هذه التحركات ستبقى محاولات غير مكتملة، تضيع وسط تعقيدات الأزمة السورية؟ الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مصير هذا المسار، الذي قد يحمل الأمل لسوريا التي أنهكتها الحرب لأكثر من عقد.