حلب، عاصمة التاريخ والتجارة السورية، تروي شوارعها وأزقتها القديمة حكايات منسية منذ آلاف السنين، وتزخر معالمها المعمارية بآثار حضارات متعاقبة، ورغم التحديات التي واجهتها منذ الأزل وحتى اليوم، تظل حلب رمزاً للقدرة على البقاء.
لا يمكننا تحديد عمر مدينة حلب، لكنها من أقدم المدن المأهولة في العالم، يُعتقد أن المستوطنين الأوائل قد أسسوا منازلهم على التل في قلب المدينة الحديثة، مستفيدين من المزايا الدفاعية الطبيعية وخصوبة أراضيها ووجود مصدر مياه مهم وهو نهر قويق، ومن معالمها التاريخية تبرز قلعة حلب.
تعد قلعة حلب من المعالم الأثرية المهمة على مستوى العالم بأسره، تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً يعود إلى العصور الوسطى، وتحديداً الألفية الثالثة قبل الميلاد، كانت هذه القلعة، موقعاً لمعبد للإله القديم «هدد» أو «حدد»، إله الطقس والمطر والرعد في الحضارة السورية القديمة.
تقع القلعة المهيبة على تل يعتلي المدينة القديمة، وقد شهدت صعود وسقوط إمبراطوريات، وكانت معقلاً عسكرياً حاسماً لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وصمدت بشموخ تحكي لنا قصصاً من أزمان غابرة، تعالوا لنتعرف على هذه القلعة الصامدة.
اقرأ أيضاً: أول قسيسة في تاريخ سوريا: الحسكة هي سوريا الصغرى
تاريخ قلعة حلب
قلعة حلب هي بناء تاريخي وعسكري متميز، تعاقب على بنائها وترميمها حضارات وممالك عديدة، بدءاً من مملكة يمحاض الأمورية، والحيثيين والآراميين والآشوريين والفارسيين، والهيلينيين والرومانيين والبيزنطيين، وصولاً إلى الحضارات الإسلامية.
وفي قديم الزمان، اختار الإسكندر المقدوني تل حلب ليكون معسكراً لجنوده، حيث بدأ بناء قلعة حلب، بعد ذلك، احتل الرومان تلك البلاد، وأضفوا منشآت لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
توالت الأحداث، وترك البيزنطيون بصماتهم في القلعة، بينما جلب الفرس الخراب والدمار حينما انتصروا على البيزنطيين، لكن هؤلاء لم يلبثوا أن عادوا، ورمموا ما خربه الفرس.
وفي عام 636م، حاصرت جيوش العرب قلعة حلب، لكن القلعة صمدت بفضل تحصيناتها وعتادها، واستمر الحصار حتى تمكن الفاتحون من الاستيلاء عليها باستخدام الحيلة، حيث اقتحموا أحد أبوابها وأسروا قائدها البيزنطي.
وكان الأمير سيف الدولة الحمداني أول من اهتم بالقلعة في العصر الإسلامي، وأمر بعمارتها وتحصينها، حتى أصبحت مقراً لإقامته ولاحقاً لكل الحكام من بعده.
ثم جاء نور الدين الزنكي، الذي أضاف عدة أبنية ورمم القلعة بأكملها، وأعاد بناء السور وبنى مسجداً، لكن الازدهار الكبير شهدته في عصر الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، الذي ترك آثاراً عسكرية ومعمارية هامة.
وفي العصر المملوكي، جدد الأشرف خليل بن قلاوون بناء القلعة، وتلاه السلطان الملك الناصر برقوق، لكن آخر الترميمات كانت في زمن قانصوه الغوري، آخر سلاطين المماليك.
وتعرضت القلعة كذلك للغزو المغولي عام 658هـ، حيث هدمت معالمها، لكنها استعادت عافيتها بعد انتصار العرب في عين جالوت، ورُمِّم ما تهدّم منها على يد الملك الأشرف، لكن القلعة عانت من الدمار مرة أخرى على يد تيمورلنك الأعرج عام 803هـ، ليعود المماليك ويقوموا بترميمها لاحقاً.
في العصر الحديث، بني مدرج حديث على سطح القلعة عام 1980 م، يتسع لثلاثة آلاف متفرج، واليوم، تأخذ القلعة شكلها الحالي على تل ذو قاعدة بيضاوية بطول 450 م وعرض 325 م، بارتفاع يصل إلى 50 م، لتظل شاهدة على تاريخها العريق.
اقرأ أيضاً: حصاد عام مختلف: كيف تستقبل سوريا العام 2025 بعد إسقاط الأسد؟
معالمها المعمارية
يُحيط بسور القلعة، الذي يمتد على شكل إهليجي ويبلغ محيطه حوالي 900 متر، 42 برجاً شامخاً، وعند المدخل الرئيسي، يوجد بناء ضخم يفتح أبوابه على عوالم من الدهاليز والقاعات الدفاعية.
ويوجد أبواب عدة لقلعة حلب، أهمها باب الحيات وهو البوابة الرئيسية، يتميز الباب بهيكله الغليظ المصنوع من خشب صلب ومزود بمسامير حديدية ضخمة، ويزدان مصراعه بأشرطة أفقية وحدوات خيل، بينما تتعالى فوقه كتابات تُشير إلى تاريخ ترميمه.
ثم يأتي باب ثامدي ونقوشه الرائعة، وفوقه سترى صورة أسدين، يتواجهان في وضعية تعبر عن القوة والشجاعة، وبينهما شجرة تضفي لمسة من الحياة على هذا المشهد
ويقود الباب الثالث إلى ممرات وقنوات سرية، حيث كانت تُدبر الخطط وتُنسج الحكايات بعيداً عن أعين الأعداء، أما الباب الرابع، فيقع أمام ضريح «الخضر»، حيث نُحتت صورة أسدين، أحدهما يضحك والآخر يبكي، تجسيداً لتناقضات الحياة.
وإلى الشرق، يوجد باب الجبل، الذي بُني في عام 1214م، وفي الجهة الشمالية، يقع الباب الشمالي، الذي يفتح على العالم الخارجي، بينما باب السر يقود إلى باب الأربعين قرب حمام السلطان، محاطًا بخندق القلعة.
تاريخ هذه الأبواب هو تاريخ حماية القلعة، فهي من كفلت حمايتها عبر العصور، ورفضت أن تسمح للغزاة بدخولها.
وتشمل قلعة حلب قاعات ومعالم فريدة كل منها يحكي قصة، إذ يحمل مسجد إبراهيم الخليل الذي أنشأه الملك الصالح إسماعيل بن محمود زنكي عام 1179، كتابات تاريخية توثق أهم المعلومات عن القلعة.
كذلك، هناك القصر الأيوبي المعروف بقصر المجد، الذي بناه الظاهر غازي في القرن الثالث عشر، والذي تعرض لحريق كبير في ليلة زفافه، لكنه أعيد بناؤه ويمثل اليوم تحفة معمارية مزدانة بالزخارف والنقوش.
أما الحمام، فقد بُني في نفس الفترة، ويتكون من ثلاثة أقسام: قسم لخلع الملابس، وقاعة معتدلة الحرارة، وغرفة بخار تتميز بتوصيل المياه الساخنة والباردة عبر أنابيب خزفية.
ومن المعالم المعاصرة نجد متحف قلعة حلب، الذي افتتح عام 1994 في مبنى ثكنات إبراهيم باشا العسكرية، ويحتوي على آثار تعود لحضارات مختلفة حكمت القلعة، ويقدم معلومات قيمة عن تاريخها.
دمار القلعة عبر العصور
تعرضت قلعة حلب لعدة فترات من الدمار، كان أولها في عام 1138، حين تعرضت المدينة لزلزال مدمر حوّل معالمها القديمة إلى أنقاض، ما ألحق أضراراً بالغة بأسقف وجدران الأبراج والسور، وأدى إلى فقدان معلومات تاريخية هامة.
وفي عام 1259، دمر القائد المغولي هولاكو دمر أجزاء واسعة منها وأضرم النيران في المساجد، وفي عام 1400، حاصر سلطان التتار تيمورلانك المدينة، حيث أحرق أجزاء من حلب القديمة ودمر أسوارها، ما زاد من تدهور معالم القلعة.
وشهدت القلعة أيضاً أعمالاً تخريبية خلال سنوات الحرب في سوريا، وقبل سنتين، في عام 2023، ضرب زلزال آخر سوريا وتركيا، وألحق أضراراً متوسطة إلى فوق المتوسطة ببعض الأسقف والجدران الحجرية في القلعة، ليزيد من تآكل تاريخها المشرق.
في الختام، تحتاج قلعة حلب الأسطورية لملاحم وكتب من صفحات كثر لوصفها بدقة واحتضان تاريخها الغني، ففيها يتجسد روح الزمن، وتبقى كل حجرة فيها شاهدة على قصص الشجاعة والفخر التي تتناقل عبر الأجيال.
اقرأ أيضاً: الجامع الأموي: الشاهد الدمشقي الخالد على الحضارة الإسلامية