لا يخلو منزل سوريّ من صابون طيّب الرائحة ذو فوائد واستعمالات جمّة، من العناية للبشرة إلى غسيل الشعر وحتى غسيل الملابس، يتربع هذا الصابون في حياة السوريين اليومية منذ قديم الزمان، صابون الغار الحلبي، الكنز العتيق الذي يحمل في رائحته عبق التراث وذكريات الطفولة.
لا يقتصر استخدام صابون الغار على من يعيش في سوريا بل يتجاوز الحدود، فتراه يُرسل كهدية تحاكي الحنين إلى الوطن للمغتربين في أصقاع الأرض، ومع كل قطعة تُرسل، يتجدد الشعور بالانتماء، قصة صابون الغار الحلبي هي قصة حب، تاريخ، واعتزاز بالجذور العريقة.
صابون الغار وارتباطه بحلب
في أحضان مدينة حلب القديمة، حيث تتعانق الأزقة الضيقة وتتناثر رائحة التوابل في الهواء، تنبضُ صناعة صابون الغار بحياةٍ تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، فحلب تُعدّ موطناً لصناعته.
وقد احتفظت عائلات حلبية بهذه الحرفة العريقة لعقود طويلة، وكأنها وصية تتناقل من جيل إلى جيل، حيث تتوزع المصابن في حواري حلب القديمة المحيطة بالقلعة التاريخية، وقد حافظ معظم أصحاب هذه المصابن على الطرق التقليدية في صناعة صابونهم، إذ تُستخدم الأيادي الماهرة في كل مرحلة من مراحل الإنتاج، لتضيف على كل قطعة لمسة فنية خاصة.
اقرأ أيضاً: الجامع الأموي: الشاهد الدمشقي الخالد على الحضارة الإسلامية
وترتبط تسمية صابون الغار الحلبي بجوهره الثمين، وهو زيت الغار المستخرج من شجرة الغار، الذي يعد المكون الأساسي لصنعه، والصابون الأفضل هو الذي تزيد نسبة زيت الغار فيه عن 25%، إلى جانب زيت المطراف (العصرة الثانية من الزيتون) ومادة الصودا الكاوية.
وتنبع التسمية أيضاً من مراحل عملية التصبين، التي تشابه خطوات طبخ الطعام، إذ يُعد الالتزام بالمقادير الدقيقة سر نجاح هذه الحرفة، فمدة بقاء المكونات في الوعاء، وطريقة تحريكها، ومدة غليانها، كلها عوامل تؤثر على جودة المنتج النهائي.
تبدأ رحلة صناعة الصابون من جمع المكونات في قدر كبير وخلطها على حرارة مرتفعة مع تحريك مستمر، ثم إضافة الكوستيك [الصودا الكاوية]، تليه إضافة زيت المطراف، وأخيراً يُضاف زيت الغار الطبيعي، الذي يُضفي على الصابون قيمته المميزة ورائحته العطرة.
وبعد مزج المكونات بعناية، يُترك الخليط لأيام عدة حتى تكتمل عملية التصبن، ثم يُخرَج بعناية ويُمَّد على مباسط خاصة، وبمجرد أن يبرد، يُقطع الصابون يدوياً، ليخرج في النهاية قطعاً فنية تعكس الدقة والحب في كل مرحلة من مراحل صناعته.
اقرأ أيضاً: وزير الكهرباء: وصل الكهرباء سيرتفع من 8 إلى 10 ساعات قريباً
صابون الغار بين الماضي والحاضر
يعود أقدم ذكر لصناعة صابون الغار الحلبي إلى ألواح طينية عُثر عليها في مدينة إيبلا، شمال غرب سوريا، والتي تعود إلى نحو 2400 قبل الميلاد، وفي العصر الحديث، تطورت صناعة صابون الغار، مستفيدة من توفر المواد الأولية المحلية، لتصبح جزءاً مهماً من التراث الثقافي السوري، وانتشرت هذه الصناعة في مناطق عدة حيث يتوفر فيها مكوناتها الأساسية، خاصةً في مزارع الزيتون في شمال غرب سوريا.
وفي سوريا، واجهت صناعة صابون الغار تحديات جسيمة منذ عام 2011، فقد أثرت الأوضاع السياسية والحرب على الصناعات عموماً وعلى حركة التبادل التجاري، رغم ذلك، لا تزال صناعة صابون الغار جزءاً من التراث التقليدي الحلبي.
اقرأ أيضاً: حصاد عام مختلف: كيف تستقبل سوريا العام 2025 بعد إسقاط الأسد؟
فوائده
وحول العالم، يحظى صابون الغار بشعبية كبيرة بسبب مكوناته الطبيعية، وخلوّه من الملونات الكيمياوية، ما يجعله مناسباً لجميع أنواع البشرة وآمناً للأطفال، فهو علاج شامل لمشاكل جلدية متعددة، مثل الإكزيما والصدفية.
وتأتي قوته كذلك من كونه مضاداً للبكتيريا والفطريات، فهو يعمل على تهدئة الالتهابات في الوجه ويعزز الانتعاش في مناطق أخرى مثل الإبطين والأقدام، ومن بين ميزاته المهمة، مقاومته لحب الشباب، إذ يجفف الحبوب بلطف دون المساس برطوبة البشرة.
وتحتوي تركيبته الغنية على الفيتامينات والبروتينات، فيساعد في ترطيب البشرة وتجديد خلاياها، وبالتالي يحارب التجاعيد والبقع الجلدية، وتمتد فوائده ليكون صديقاً للشعر، إذ يقوي فروة الرأس ويعزز نمو الشعر عند الاستحمام به. وبفضل رائحته العطرة، يمكن استخدام قطع صغيرة منه لحفظ الملابس في الخزانات، لتبقى منتعشة وخالية من الحشرات.
جدير بالذكر، أنه في نهاية العام الماضي، أُدرِج صابون الغار الحلبي في قائمة التراث الثقافي غير المادي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، فهي حرفة تتطلب صبراً ودقة في الموازنة بين المكونات، وأكدت اليونسكو أن مثل هذه الحرف تمثل جسراً ثقافياً يربط المجتمعات بتراثها وتاريخها.
اقرأ أيضاً: فارس الذهبي: هل هنالك صناعة دراما سورية؟