قصرٌ أثريٌّ مهيب يقف شامخاً في قلب دمشق القديمة، ليكون شاهداً على أحداث غابرة مرّت على هذه الأرض، تروي كل زاوية من زواياه حكاية حياة، وكل حجر فيه يحمل أسراراً من عصور مختلفة، إنه قصر العظم الذي تُسمَع في جنباته أصداء الماضي مخلّداً عظمة الحضارة وتاريخها الغني.
تاريخ قصر العظم
يحاط قصر العظم بسوق البزورية والجامع الأموي الكبير، وقد شُيِّد في مطلع القرن الثامن عشر، حين أمر والي دمشق، أسعد باشا العظم، ببناء هذا القصر ليكون مسكنه بعد توليه ولاية الشام عام 1749 ميلادي.
اختار أسعد باشا الموقع بدقة، ليعكس قوة عائلته ومكانتها الاجتماعية والسياسية في العصر العثماني، فقد كان القصر نقطة التقاء حيوية، حيث توافقت فيه مزايا الاقتصاد والسياسة، متربعاً بين طرق القوافل التي كانت تعبر المدينة.
فعلى بعد خطوات قليلة من قصره، أنشأ أسعد باشا خاناً للقوافل التجارية، ليكون مركزاً تجارياً لاستقبال التجار والمغامرين القادمين من كل حدب وصوب، أطلق عليه اسم “خان أسعد باشا”.
ويذكر التاريخ أن 800 حرفي عمل بجد على مدى عامين أو ثلاثة أعوام لإتمام هذا الصرح المعماري الرائع، وحينها، بحث وكلاء العمل عن أجمل الفنون من دمشق وسورية الكبرى وجنوب بصرى، ليجعلوا من القصر تحفة فنية، ومن أهم عناصر الزينة كانت الأعمدة الرومانية والزخارف المتنوعة التي جُلبت من بصرى، لتزين فناء القصر.
اقرأ أيضاً: «قلعة حلب» رمز العنفوان رغم كُروب الزمان
أقسامه وأهم قاعاته
تبلغ المساحة الكلية لقصر العظم 6400 م²، ما يجعله أكبر المساكن الخاصة في دمشق وأقدمها، ويعد نموذجاً مميزاً للعمارة السكنية الدمشقية، إذ يجمع بين مظهر خارجي بسيط وزخارف داخلية رائعة، ويتكون من ثلاثة أجنحة: الحرملك المخصص للنساء، والسلملك لاستقبال الضيوف من الرجال، والخدملك للخدم.
يمكن دخول القصر من مدخل يليه غرفة حراسة، ثم ممر طويل مغطى بقبوة متصالبة، يفضي إلى الجناح الرسمي “السلملك”، والذي ينظم حول فسحة صغيرة ذات لون سماوي، وتحتوي على إيوان في الجدار الجنوبي، ومن هنا، يمكن الوصول إلى “الحرملك”.
تنتظم الغرف في “الحرملك” حول فسحة سماوية واسعة، تحتوي على بحرتين وحديقة في الوسط، وتُستخدم الغرف الشمالية للمعيشة في الشتاء، وقد زُودت برواق محمول على أعمدة كلاسيكية من البازلت المستورد من درعا وبصرى، وفي الجهة الجنوبية الشرقية منه، يواجه الإيوان بحرة مستطيلة كبيرة، ويجاوره حمام.
اقرأ أيضاً: معرة النعمان: مدينة أبي العلاء المعري، قيمتها التاريخية ورمزيتها!
في قاعة الاستقبال، يوجد الأثاث الدمشقي القديم المصنوع من خشب الجوز والمزخرف بالصدف البحري، وتضفي الأقمشة الحريرية لمسة من الفخامة في المكان، وبعد خطوات تقبع قاعة الكتابة والتدريس، يظهر فيها مشهد المدرسة التقليدية التي كانت تُعلم الأطفال القرآن واللغة العربية.
وفي قاعة الآلات الموسيقية الشرقية، تُعرض نماذج للآلات التقليدية، وتتواجد أدوات مصنوعة من الجلد في قاعة الجلديات، حيث تُعرض الأحذية والأحزمة، بينما ترى الأثاث المنزلي المزخرف بالصدف في قاعة الصدف.
أما قاعة العروس فتأخذ الزائر في رحلة إلى زمن الأعراس التقليدية، مع الأزياء والهدايا التي كانت تُقدم للعروس، وفي قاعة السلاح، تُعرض مجموعة من الأسلحة القديمة.
وتستعرض قاعة الحج تقاليد الحج الشامي، مع تفاصيل دقيقة عن الملابس والهدايا، كما تروي قاعة المقهى الشعبي حكايات من الحياة اليومية القديمة، حيث يجتمع الناس للعب والتسلية.
اقرأ أيضاً: ما السرّ وراء عشق السوريين لـ«صابون الغار الحلبي»؟
في قصر العظم أيضاً يوجد مركز الوثائق التاريخية، والذي يضم أكثر من 5 ملايين وثيقة ومخطوطة تعود إلى ما قبل خمسمائة سنة، وصور توثق النشاطات السياسية في سوريا، مثل صور الملوك والزعماء.
ويحتوي المركز على عدة أقسام، منها قسم خاص بالسجلات العثمانية، والذي يتضمن سجلات المحاكم الشرعية والأوامر السلطانية، كما يضم وثائق رسمية صادرة عن الحكومات السورية بين عامي 1920 و1966، بما في ذلك مراسيم جمهورية وقرارات وزارية، ونسخ من الجريدة الرسمية السورية منذ 1919.
ويضم المركز أيضاً مجموعة من الأوراق والمذكرات لشخصيات وطنية وسياسية بارزة مثل سلطان باشا الأطرش وفخري البارودي، كما يحتوي على قسم صحفي يضم صحف عثمانية وسورية قديمة، وقسم مخصص للتصوير والميكرو فيلم يضم 6000 صورة لشخصيات سورية وعربية. والأهم من ذلك، يحتوي المركز على 5000 كتاب مهم تتعلق بتاريخ سوريا والوطن العربي.
اقرأ أيضاً: فندق الشيرتون في دمشق حيث يلتقي التاريخ بالفخامة
محطات في تاريخ القصر
في عام 1830، جُدِّد بناء قصر العظم وزُيّن بلوحات ثلاثية الأبعاد. ولكن في عام 1945، تعرّض القصر للقصف من قبل جيش الاحتلال الفرنسي، ما أدى إلى تهدم قسمه الجنوبي، ثم تم تحويله إلى مدرسة.
وفي عام 1954، أصبح القصر متحفاً للتقاليد الشعبية، حيث ضم معروضات من مختلف المناطق السورية من خلال التبرعات والشراء، ما جعله مركزاً للجذب السياحي يزوره يومياً أكثر من أربعة آلاف شخص، ولكن للأسف، تعرّض القصر لحريق كبير في عام 1956.
وفي عام 1969، استملكته مديرية الآثار والمتاحف السورية بعد رحيل صاحبه، وبدأت أعمال الترميم وإعادة التأهيل في عام 1970، واستمرت هذه الأعمال لمدة عشر سنوات، وبحلول عام 1980، تحول القصر إلى نموذج يُحتذى به للبيت الدمشقي العتيق.
ختاماً، يظلّ قصر العظم رمزاً خالداً لتاريخ دمشق وحضارتها، وجاذباً قوياً للزوار والسياح من كل أصقاع العالم، فعمارته وتراثه تجعل منه نقطة التقاء للماضي والحاضر، ومهما تكلمنا عنه سيبقى يحمل في طياته أسراراً لم ترى النور بعد.
اقرأ أيضاً: وادي السيليكون في دمشق وتأمين 25 ألف فرصة عمل