لطالما شكّلت سوريا نقطة محورية في الحسابات الاقتصادية والسياسية الإقليمية، لكن المشهد الاقتصادي الذي خلفته سنوات الحرب فرض تحديات معقدة أمام محاولات إعادة الإعمار، وفي خطوة جديدة تشير إلى تغير في طبيعة العلاقات الدولية، أعلنت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، عن استعداد الصندوق لدعم سوريا في مساعيها لإعادة بناء مؤسساتها المالية.
جاء هذا التصريح خلال لقاء أجراه «راديو الشرق» على هامش مؤتمر العلا لاقتصادات الأسواق الناشئة، الذي تحتضنه مدينة العلا السعودية، وأوضحت غورغييفا أن هناك تواصلاً فعلياً بين الصندوق والسلطات السورية بهدف فهم احتياجات المؤسسات الأساسية، ولا سيما مصرف سوريا المركزي، مشيرةً إلى أن الهدف من هذا التعاون هو تعزيز قدرة المؤسسات على أداء دورها بفعالية، بما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد والمجتمع السوري.
وتأتي هذه المحادثات بين صندوق النقد والمسؤولين السوريين بعد انقطاع دام 16 عاماً، وهي فترة شهدت تحولات كبيرة في المشهد الاقتصادي السوري، ما أحدث فجوة في البيانات والمعلومات المتاحة للصندوق عن الأوضاع الداخلية، ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الجديد قد يمثل بداية لمرحلة مختلفة من التعامل مع التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد.
وبالنسبة للمدة التي قد يحتاجها صندوق النقد الدولي لسد الفجوة المعلوماتية وإطلاق برنامج أولي لدعم سوريا، فقد شددت غورغييفا على أن الأمر مرهون بمدى رغبة السلطات في دمشق في تسريع خطوات التعاون، وأكدت أن سوريا تحظى بأهمية كبيرة، ليس فقط لشعبها، بل للمنطقة بأكملها، وأن الصندوق مستعد للتحرك وفق ما تتيحه الظروف.
اقرأ أيضاً: الدردري يتحدث بالأرقام: 36 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد السوري!
ويشار هنا، إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع كان قد تحدث عن تحضيرات جارية لوضع خطة اقتصادية استراتيجية تستمر لعقد من الزمن، وتهدف إلى إحداث تحول في النموذج الاقتصادي السوري بعيداً عن النهج الاشتراكي، مؤكداً أن هناك فريقاً يضم خبراء اقتصاديين سوريين، داخل البلاد وخارجها، يعملون على رسم معالم هذه الخطة، التي يُرجى أن تسهم في إعادة هيكلة الاقتصاد السوري.
وفي الإطار ذاته، أكد وزير الاقتصاد باسل عبد الحنان أن عملية إعادة هيكلة الاقتصاد ضرورية للانتقال من نموذج اشتراكي مغلق إلى اقتصاد سوق مفتوح، مشيراً إلى أن هذا التحول يهدف إلى تصحيح مسار الاقتصاد السوري نحو بيئة أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي.
من ناحية أخرى، تشير تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة إلى أن تكلفة إعادة إعمار سوريا قد تصل إلى 300 مليار دولار، وهو رقم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للبلاد حتى قبل اندلاع الحرب، ووفقاً لتصريحات وزير المالية السوري محمد أبا زيد، فقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي من 60 مليار دولار عام 2010 إلى أقل من 6 مليارات دولار عام 2024، ما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
وفي سياق متصل، أعلن وزير الخارجية أسعد الشيباني، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، عن نية دمشق فتح أبواب الاقتصاد أمام الاستثمارات الأجنبية، وأكد أن الحكومة تعمل على تعزيز الشراكات مع دول الخليج، لا سيما في مجالي الطاقة والكهرباء، مشيراً إلى أن الموارد الاقتصادية لسوريا متنوعة وتشمل قطاعات حيوية مثل الصناعة والسياحة. كما أشار إلى أن الحكومة الجديدة تسعى إلى تطبيق نهج اقتصادي أكثر انفتاحاً لدعم عجلة النمو.
وكان الشيباني قد أجرى جولات دبلوماسية في بداية يناير شملت السعودية، الإمارات، وقطر، حيث ناقش سبل تعزيز التعاون الاقتصادي، وأوضح أن السلطات الجديدة ورثت اقتصاداً منهكاً، لكنه أعرب عن تفاؤله بإمكانية إعادة البناء من خلال التركيز على خمسة قطاعات رئيسية، تشمل الطاقة، الاتصالات، الطرق، المطارات، إضافة إلى التربية والصحة، باعتبارها أساساً ضرورياً للنهوض بالبلاد.
اقرأ أيضاً: وفود أردنية وقطرية وسعودية في دمشق لمناقشة الأمن والاقتصاد وعودة اللاجئين
أما فيما يخص العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عقود، شدد الشيباني على أنها تمثل التحدي الأكبر أمام أي جهود للنهوض بالاقتصاد السوري، ووصف العقوبات بأنها قيد يكبل الاقتصاد ويؤثر بشكل مباشر على معيشة المواطنين، وفي الأسابيع الأخيرة، كثّفت الحكومة السورية جهودها للمطالبة برفع هذه العقوبات، معتبرة أن الشعب السوري لا ينبغي أن يُعاقب على سياسات الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا بدأت منذ عام 1979، حين أدرجت واشنطن دمشق ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ثم تم تشديدها عام 2004 بموجب قانون محاسبة سوريا، ثم لاحقاً عبر ما يعرف بـ «قانون قيصر» الذي بدأ تطبيقه نهايات العام 2019.
لكن ما بعد سقوط نظام الأسد، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن إعفاء بعض الأنشطة من العقوبات لفترة ستة أشهر، بهدف تسهيل وصول السوريين إلى الخدمات الأساسية، إلا أن مسؤولين أمريكيين أوضحوا أن أي تخفيف إضافي للعقوبات سيعتمد على تحقيق تقدم ملموس في الملف السياسي للبلاد.
اقرأ أيضاً: وزارة الدفاع تتخذ إجراءات جديدة لمنع انتحال صفة الأمن العام