في البدء كانت الكلمة، منها انبثقت الحضارات على مختلف العصور تعبر عن نفسها بأبهى أشكال الإبداع الأدبي والفكري، ومع كثرة التطورات التي تطرأ على طرق تواصل البشر ببعضهم ببعض، بات للكلمة شركاء كثر يزاحمونها على مكانتها كناقل للحضارة، لكنها رغم ذلك ما زالت تحتفظ برونقها الأدبي الذي لم يملّ الإنسان من استخدامه ليعبر عن كينونته كفرد متفرد بهواجسه وأحلامه من جهة، وكجزء لا يتجزأ من المجتمع من جهة أخرى.
وفي سوريا، لم تكن الكلمة مجرد ناقل للحضارة أو أداة للتواصل، بل سيفاً أشهره الأدباء والشعراء السوريون على مدى أجيال متلاحقة في وجه الظلم والاستبداد السياسي والثقافي على حد سواء، حتى بات كل أديب سوري ثائراً يورث شعلة الثورة لمن يأتي بعده، دون أن تنطفئ جذوتها رغم كل العواصف التي حاولت إخماد الأدب السوري الثائر.
فمن منا لم يسمع نزار قباني وهو يشدو بكل ما أوتي من تمرد ورغبة في الحرية “هذي البلاد شقة مفروشة، يملكها شخص يدعى عنترة”، أو يشعر بنفسه ثائراً يريد اقتلاع الحرية من أنياب الطغاة مهما كلفه الثمن، حتى لو خان وطنه وهو يدخن سيجارة من سجائر محمد الماغوط؟ ومن منا لم يطلع على أعمال سعدالله ونوس، المفكر المتمرد، صاحب مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”، والذي أراد وطناً حراً، لا مزرعة يساق فيها البشر إلى العبودية مقابل أن يحيى الملك متخماً بالسلطة والاستبداد؟
اقرأ أيضاً: معرة النعمان: مدينة أبي العلاء المعري، قيمتها التاريخية ورمزيتها!
سنوات طويلة من حرب حاول فيها الحاكم المستبد تغذية الدوافع الوحشية لدى جلاديه ليحافظ على كرسيه، تقود الذاكرة لتتأمل كتاب “حيونة الإنسان” للراحل ممدوح عدوان، علنا نفهم أي وحشية يمكن أن يصلها البشر عندما يتخلون عن إنسانيتهم مقابل السلطة، أو لتقرأ رواية “الزمن الموحش” للروائي حيدر حيدر، التي كانت خير شاهد على تمرد دمشق على كل من يريد أن يسلبها تفردها الثقافي والحضاري والإنساني.
ومع بزوغ شعاع الحرية الذي انتظرناه طويلاً، ومع الحديث عن الأدب السوري الثائر لا يمكن إلا أن نستذكر روح الروائي الراحل خالد خليفة، الذي جعل من أدبه أداة يقارع فيها الظلم والاستبداد، متحدياً خطاب الكراهية الذي كانت تروج له السلطة لتحقيق مصالحها، ومصراً على أن الشعب السوري لا تليق به إلا الحرية مهما كان الثمن الذي يدفعه غالياً.
وفي بلاد باتت فيها المعتقلات لفترة طويلة علامة فارقة في الحدود القصوى التي يمكن أن يصلها استبداد السلطة، كان لابد لأدب السجون أن يسجل حضوره، فولدت رواية القوقعة للكاتب مصطفى خليفة، التي ورغم مرور ما يزيد عن 15 عاماً على كتابتها، وتحطيم أقفال السجون وتحرير من كانوا فيها، ما زالت تثير فينا وجعاً حارقاً لن يفهمه إلا من ذاق سياط الاستبداد وخناجره.
واليوم ، بعدما نالت هذه البلاد ما تاقت إليه من حرية طوال عقود من الزمن، تبقى حروف القباني والماغوط وونوس وعدوان وخليفة، وغيرهم الكثير، خالدة في سماء الأدب السوري، تخبر العالم من مشرقه إلى مغربه، أن الثورة السورية لم تكن ثورة بنادق فقط، بل ثورة كلمة أثبتت أنها قادرة على صنع المعجزات مهما حاول الاستبداد على اختلاف العصور طمس حروفها، وأن الشعب السوري الذي صدر حضارته للعالم عبر مئات السنين، قادرٌ اليوم أيضاً ورغم كل ما يحيط به من مآسي على ترك بصمته الإبداعية، وإعادة إنتاج نفسه حضارياً وفكرياُ وإنسانياً.
اقرأ أيضاً: حصاد عام مختلف: كيف تستقبل سوريا العام 2025 بعد إسقاط الأسد؟