من منا لم يسمع ولو لمرّة بالأغباني السوري أو الأغباني الدمشقي، لترتسم في البال عند سماع اسمه صورة مفرش الطاولة الذي كانت جداتنا تضعنه على طاولة الطعام أو طاولة الصالة في المنزل وتتباهى به أمام الضيوف، فما هو تاريخ الأغباني السوري، وكيف يصنع؟
يعد الأغباني السوري، أو الأغباني الدمشقي، رمزاً للفن التراثي العريق الذي يمتد بجذوره إلى مدينتي دمشق وحلب، إذ يعود تاريخ هذا النسيج الفريد إلى أكثر من 150 عاماً، حين ابتكر الحرفيون الدمشقيون نوعاً خاصاً من الأقمشة البيضاء المطرزة بخيوط حريرية صفراء، وبتصاميم وزخارف مستوحاة بجمالها من التراث العربي الغني.
ويسود اعتقاد أن اسم “الأغباني” مشتق من عائلتين عريقتين، هما عائلة الأغا وعائلة الباني، اللتين نقلتا هذا النوع من النسيج من حلب إلى دمشق.
ويُرجع المؤرخون جذور صناعة النسيج الأغباني إلى العصور القديمة، وبالتحديد إلى زمن الفينيقيين، فقد كانت المنطقة حينها غنية بالأصباغ الطبيعية، ما دفع السوريين لتطوير مهارات النسيج فأنتجوا أقمشة مُلوّنة بألوان زاهية تعكس جمال الطبيعة، وبفضل التجارة النشطة للفينيقيين، انتشرت فنون النسيج والأصباغ إلى أنحاء العالم المختلفة، ما جعل الأغبانى تراثاً سورياً أصيلاً تعرفه العديد من الدول.
ازدادت شهرة الأغباني في العهد اليوناني والروماني، بفضل تطريزاته الدقيقة التي نالت إعجاب الجميع، وعندما انطلق الصليبيون في حملاتهم إلى الشرق، أعجبوا بهذا الفن الفريد، وساهموا في نقله إلى أوروبا وزيادة انتشاره هناك.
ويعتبر العديد من التجار أن هذه الصناعة تعود إلى العهد العثماني في دمشق، حيث كان يتم إنتاج النسيج المُطرز خصيصاً للرجال ذوي المكانة والسلطة الدينية العالية، وقد كانت النساء رائدات في هذه الحرفة، حيث يتعلمنها منذ الصغر لتوريثها للأجيال القادمة.
اقرأ أيضاً: ما السرّ وراء عشق السوريين لـ«صابون الغار الحلبي»؟
اعتمدت صناعة الأغباني في بداياتها على الحرير الطبيعي الذي كان متوفراً في سوريا، وقد أضفى على القطع رونقاً وجاذبية، ومع الوقت، توسعت الحرفة لتشمل استخدام القطن السوري ذو الجودة العالية إلى جانب الحرير، وأسهم هذا الأمر في تنوع المنتجات المعروضة.
وعادة ما تبدأ عملية صناعة الأغباني بالطبع على القماش باستخدام قوالب طباعة خشبية تحمل زخارف وتصاميم مميزة، تُغطّى هذه القوالب بالحبر ثم تُستخدم لطباعة النقوش على القماش، وهذه هي الخطوة الأساسية لتحضيره لما قبل عملية التطريز.
وبعد ذلك، تُنقل الأقمشة إلى منازل النساء، حيث يعملن على تطريزها باستخدام خيوط الحرير والقصب، وتتطلب هذه المرحلة الكثير من الدقة والصبر، إذ قد تستغرق القطعة الواحدة عدة أيام أو أسابيع حسب التعقيد.
وتتضمن أدوات التطريز الإبر والخيوط، إضافة إلى الحلقات التي تُسمى “الطارات” لتثبيت القماش، وبعد الانتهاء من عملية التطريز، يتم غسل القماش لإزالة الشوائب وآثار الحبر، وفي الماضي، كانت هذه العملية تتم بشكل يدوي، حيث يُنقع القماش في الماء ثم يُجفف تحت أشعة الشمس، قبل أن يُكوى لإزالة التجاعيد، أما اليوم فيتم غسل الأقمشة في الغسالات الكهربائية.
اقرأ أيضاً: أغرب أسماء الأكلات السورية وقصصها المشوّقة
وفي القديم، كانت طباعة النقوش تتم بواسطة النحت على الحجر والرمل، ولاحقاً بدأ استخدام النحاس كبديل دقيق وسهل، لكن مع التقدم التكنولوجي خلال العقود الأخيرة، شهدت هذه الصناعة تحولاً تكنولوجياً، إذ يمكن الآن استخدام الحاسوب لتصميم الرسومات والزخارف بدقة عالية، إضافة لاستخدام الماكينات للتطريز، ومع ذلك ورغم كل هذه التغييرات التي طرأت على صناعة الأغباني، يتبقى للحرفة والذوق الإنساني فيها طابعها الخاص.
وتتميز كل منطقة في سوريا بإنتاج أنواع مميزة من الأغباني، مثل الأغباني المعروف باسم “الصاية”، الذي يُستخدم كلباس شعبي في مناطق وسط وشمال سوريا، كما يوجد الأغباني الفلسطيني، الذي يتضمن زخارف متعددة تعطي شكلاً هندسياً مميزاً، والأغباني الحلبي والحمصي، والأغباني اليبرودي، الذي يُستخدم فيه خيط البرّيم، وهو مزيج من الحرير المخمل.
ورغم التحديات التي تواجه صناعة الأغباني، من تراجع أعداد الحرفيين وارتفاع تكاليف الإنتاج، إلا أن هناك فرص واعدة لاستدامة هذه الحرفة، فهي جزء مهم من الهوية الثقافية السورية، والتي تعكس التفاعل العميق بين الإنسان والطبيعة والفن، وتروي علاقة الإنسان ببيئته، ما يؤهلها لتبقى إحدى أهم الحرف التقليدية في سوريا والعالم.
اقرأ أيضاً: من الفلافل إلى تماري الكعك.. أشهر أكلات الشارع السوري!