الجمعة 15 تشرين الأول/أكتوبر 2021
سوريا اليوم – دمشق
تعاني سوريا منذ عقود من فساد ظاهر ومستتر، يتمثل في اضطرار المواطنين إلى دفع الرشوة لتنفيذ معاملاتهم الحكومية، أو الإفلات من العقاب في حال ارتكاب مخالفة، وفي كثير من الأحيان التخلص من عقوبة غير عادلة قرر شرطي أو مسؤول حكومي فرضها على مواطن تعسفاً.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد، والانهيار في مستوى المعيشة، يشكو المواطنون السوريون من تضخم الفساد و”علنيته”، حيث برزت ظاهرة ارتفاع “تسعيرة الرشوة” التي أصبحت تُدفع علناً دون مواربة.
ويرصد تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط اليوم الجمعة كيف يتجمع مئات المواطنين للقيام بعمليات مصرفية، في داخل مبنى بنك حكومي وسط دمشق، بعدما حصل معظمهم على قصاصة ورقية مدون عليها رقم (دور)، ويتطلب الأمر من كل واحد منهم، الانتظار حتى إذاعة رقمه عبر مكبر الصوت، ليتوجه بعدها إلى نافذة يظهر عليها رقمه للقيام بما يريد. ويؤدي بطء إنجاز معاملات من تمت إذاعة أرقامهم إلى تجمع عشرات الأشخاص أمام كل نافذة، مع إطلاق الموظفين حججا لتبرير الأمر منها (عدم وجود شبكة، انقطاع الإنترنت، توقف الحاسوب..).
وسط هذه الحال، يلاحظ وصول أشخاص إلى جانبي كل نافذة أعدادهم تساوي عدد المصطفين على الدور وربما أكثر وإنجاز معاملاتهم بشكل فوري، ويلفت الانتباه أن كل صاحب معاملة من هؤلاء يرفقها مسبقا بشكل علني أو مخفي (بين الأوراق) بمبلغ مالي أقله ورقة نقدية من فئة 5 آلاف ليرة سورية كرشوة للموظف أو الموظفة.
«ما بيمشي الحال»، عبارة قالتها موظفة لأحد الزبائن من خارج الدور عندما أعطاها المعاملة مرفقة بورقة نقدية من فئة ألفين، وعند إلحاحه عليها للقبول، بدأت بالتحدث بالهاتف. وفيما واصل هو الإلحاح، بادرت هي لرفع كف يدها، في إشارة إلى أنها تريد خمسة آلاف، وقد أنهت مكالمتها مباشرة عندما امتثل الزبون لطلبها. ويقابل المصطفون على الدور، هذا الوضع بامتعاض، ويؤكد أحدهم لـ«الشرق الأوسط»، أنه ينتظر منذ ثلاث ساعات ولم يصل دوره، ويشير إلى أن كل الموظفين ينجزون عشر معاملات من خارج الدور مقابل واحدة من الدور، ويضيف «من يوم يومها عوجا ورح تظل عوجا والمصيبة ما عاد حدا استحى».
وعلى حين كان عناصر شرطة المرور، يقبلون بمائة أو مائتي ليرة أو 500 ليرة كحد أعلى كرشوة من أصحاب سيارات عند ارتكابهم مخالفات، باتوا لا يقبلون بأقل من ألفي ليرة لأبسط مخالفة، وقد يصل المبلغ ما بين 5 – 10 آلاف عن المخالفات الجسيمة.
وشهدت «الشرق الأوسط»، سجالاً بين صاحب سيارة وشرطي مرور، عقب تجاوز الأول إشارة ضوئية، إذ راح الأخير يطلق تهديدات بحجز السيارة، فيما دخل صاحب السيارة في بازر معه بأن «يأخذ كم ألف ويسكت»، لينتهي الأمر بقبول الشرطي مبلغ 5 آلاف، على حين ردد صاحب السيارة وهو يهم بالمغادرة عبارة «العمى ما عاد شبعوا».
وفي ظل أزمة معيشية خانقة يعاني منها أغلبية السوريين بسبب تواصل ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، واستمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي (الدولار يساوي نحو 3500 ليرة)، تقوم «وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك»، بالإعلان وبشكل شبه يومي عن اتخاذها «إجراءات صارمة» لضبط الأسعار وتشديد الرقابة على الأسواق، لكن لا أثر على الإطلاق لمفاعيل تلك الإجراءات.
ويؤكد أهالي دمشق لـ«الشرق الأوسط»، أنه «نادرا ما يتم رؤية دورية لموظفي التموين في الأسواق، وحتى إن وجدوا فهمهم قبض «المعلوم» وليس تنظيم مخالفات». ومع تزايد أعداد المعتقلين في السجون خلال سنوات الحرب، يؤكد محامون في دمشق لـ«الشرق الأوسط»، أن توقيع «إخلاء سبيل» لأي معتقل بات يكلف ما بين 5 – 10 ملايين ليرة سورية تدفع كرشوة للقضاة.
والفساد الحكومي في سوريا موجود منذ 5 عقود، ولكنه تزايد بشكل كبير خلال سنوات الحرب، وأصبح الحصول على وظيفة حكومية بمثابة «منحة» ومكافأة على الولاء للنظام، وتعويضاً عن القتال إلى جانبه فالأولوية لذوي شهداء النظام والمسرحين من قواته. وتحتل سوريا المرتبة الـ178 من أصل 180 في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2020، إذ تعد الثالثة بعد الصومال وجنوب السودان في هذا التقييم.
وبات أكثر من 94 في المائة من المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة يعيشون تحت خط الفقر، حسب الأمم المتحدة والعديد من الدراسات، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 25 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل الحرب نحو 600 دولار.
وتشكل الرشوة بالنسبة لموظفين حكوميين «مورد رزق غير مشروع»، يكبر ويصغر حسب الدرجة الوظيفية، ويتمسك الكثير منهم بوظائفهم، ويلاحظ جيران لهم أنهم ينفقون شهريا عدة أضعاف المرتب الشهري الذي يتقاضونه، إذ يصل إنفاق بعضهم نحو نصف مليون ليرة وآخرين مليون.