الخميس 28 تشرين الأول/أكتوبر 2021
سوريا اليوم – الرقة
يسترسل أحمد الموسى (31 عاماً) من سكان مدينة الرقة شمالي سوريا، في حديثه عن اعتقال والده من منزله في شتاء 2015، من قبل تنظيم (داعش)، واصفاً إياها “بليلة لا تنسى” خاصة أنهم إلى الآن لا يعلمون أي شيء عن مصيره.
وصاحَب توسع تنظيم “داعش” في العراق وسوريا انتهاكات علنية مروعة، واقتصرت الاعتقالات والاختطافات الواسعة النطاق على يد جماعة غير مرئية تحت مسمى “الأمنيين”، بحسب تحقيق نشرته وكالة “نورث برس” المحلية.
ولكن هذه الاعتقالات لم تكن أقل فظاعة من تلك المعلن عنها والتي تمثلت بخطف الآلاف من منازلهم، وسياراتهم، وعند نقاط التفتيش، ليُصبحوا في عداد المفقودين.
ليلة ظلماء
ويروي “الموسى” قصة اعتقال والده في شتاء 2015، عندما طرق باب منزلهم رجلين ملثمين بلباس أسود يدعون أنفسهم بالأمنيين وطلبوا رؤية والده، بحجة الاستفسار عن بعض الأسئلة ليتم بعدها اعتقاله.
ورغم سؤال “الموسى” واخوته عن سبب الاعتقال، ردد أحد الرجلين أنه “ليس هناك شيء مخيف اطمئنوا” في محولة لعدم اصدار بلبلة وتجمع الجيران في الحارة التي تسكن فيها العائلة.
واعتقل الوالد بتهمة التجسس وأنه موظف وعضو في حزب البعث الحاكم في سوريا، وأنه يشكل خطراً على وجود التنظيم، بحسب “الموسى”.
ووفقاً للشاب، فإن اعتقالات المدنيين كانت تحصل في مختلف الأوقات والمناطق الخاضعة للتنظيم، وغالباً كانت المشاهد ذاتها تتكرر.
“شخصين أو ثلاثة متشحين بالأسود، قليلو الكلام، ويوحون لذوي المعتقل بأنها مجرد استفسارات عن بعض الأسئلة وسيعود خلال بضع ساعات”.
وأضاف “الموسى”، أنه أثناء اقتياد عناصر التنظيم والده، تعاملوا معه بطريقة لا توحي بأنهم سيقتلونه، “حتى إن قائد المجموعة الذي تكلم بلهجة سورية شدد على .أنه سيعيده إلى المنزل بنفسه”.
وبعد مضي يومين، بدأ “الموسى” مع والدته، بطرق أبواب مقرات التنظيم المعروفة في الرقة، كسجن الملعب البلدي المعروف آنذاك بـ”النقطة 11″، وسجن السد في الطبقة، ومقرات أخرى في المنطقة، إلا أنهما كانا يعودان دون نبأ عن الوالد “محمد”.
وبحسب ناشطين في المدينة، فإن أشد سجون التنظيم رعباً وقساوة هي “النقطة 11، والملعب البلدي ومبنى المحافظة والسد في مدينة الطبقة”.
وأشار “الموسى” إلى أن بعد أشهر من البحث، خرج معتقل وكان مع والده في قاعة الحجز ذاتها، ليخبره أن والده قد قضى فترة ما يقارب الشهر ليخرجوه من الحجز حيث أنه أطلق سراحه كما أخبروهم.
وبعد مرور سبع سنوات على اختفاء الوالد، إلا أن مصيره لا يزال مجهولاً، ولا يعلم “الموسى” وعائلته إن كان على قيد الحياة، “ربما قضى حياته في أحد المعتقلات أو ربما جثته الآن بين رفات إحدى المقابر الجماعية التي ارتكبتها داعش”.
ويرى “الموسى” أنه لا يوجد خطوات عملية جادة من الجهات المسؤولة في الكشف عن مصير المفقودين، معتبراً ذلك بأنه “إهمال لا يتوافق مع حجم الكارثة التي ألمت بهم”.
وطالبّ “الموسى” بإنشاء مكتب تحت مسمى “عوائل المفقودين”، أملاً في معرفة مصير مفقوديهم. “حتى وإن كان المفقود متوفياً لكنّا أكرمناه بالدفن بالطرق المعروفة”.
مقبرة الرعب
أثناء حقبة سيطرة التنظيم على الرقة انتشر عدة مقاطع مرئية للتنظيم يلقي فيها ضحاياه في حفرة عميقة بمنطقة تبعد 85 كم شمال الرقة بين بلدة سلوك والقنطري تسمى “الهوتة”، بناءً على قرارات كانت تصدرها “محاكمه الشرعية”.
ويحيط “الهوتة” أودية وتعرف بأنها من المزارات السياحية إذ ذاع صيتها أنها “مقبرة الرعب أو حفرة المرتدين” لدى “داعش” ومن أكبر مقابره الجماعية، بحسب ناشطين في المدينة.
ويتذكر إسماعيل الحمود (41 عاماً) من قرية رقة سمرة 8 كم شرقي الرقة، صيف 2016، حين توقفت سيارتين أمام محله الذي يتشاركه مع أخيه “إبراهيم” لصناعة أبواب الحديد، “يظهر على هيئتهم الشر”.
وترجل ثلاثة عناصر من التنظيم من السيارتين بعنف مطلقين على شقيق “الحمود” صفة “المرتد” بصياح قبل وصولهم إلى المحل.
وكان يعمل شقيق “الحمود” الذي يصغره سناً، موظفاً لدى مديرية الأعلاف التابعة للحكومة السورية، وكان يتردد إلى مناطق سيطرة الحكومة بهدف استلام رواتبه.
قال “الحمود” إن تهمة اعتقال شقيقي كانت “العمالة والتجسس لصالح الحكومة في دمشق إضافة إلى أنه ينقل لهم تحركات التنظيم” كما زعموا.
هل ما زال حياً
حاول “الحمود” بخفية التحري عن مكان أخيه ومصيره من أحد أقاربه كان على صلة بالتنظيم آنذاك، لكنه لم يحصل على جواب شافٍ.
واكتفى بالقول: “أخبرني قريبي أن مصير شقيقي الإعدام والدفن في حفرة المرتدين” ألا وهي حفرة الهوتة نفسها.
وقال “الحمود” إن أقاربه حذروه من السؤال عن أخيه “فمحاولة البحث عن شخص معتقل يمكن أن يعرض السائل للمصير نفسه”، كما وصف.
وبحسب “الحمود” فإن عائلات كثيرة غيره لا تعرف مصير مفقوديها ولا توجد جهة معنية تتابع قضاياهم وتزودهم بمعلومات إن توفرت.
وزمن سيطرة التنظيم، كان تحصيل المعلومات عن المفقودين يتم عبر من له معرفة بمسؤولين عن حفر المقابر الجماعية، أو أطراف أخرى لهم صلة بقياديين، وغالباً كان من سجناء سابقين لدى التنظيم، أما الأنباء والإشاعات المحلية فكانت غير مؤكدة، بحسب “الحمود”.
ولم يعلم “الحمود” إن كان شقيقه على قيد الحياة أم لا، “حتى إن كان متوفياً حينها فلم يكن ليسمحوا لنا بإقامة عزاء له، فبحسب شرائعهم هو ليس مسلماً ولا ينبغي دفنه في مقابر المسلمين بل في مقابر جماعية”.
ويقول: “على الرغم من هزيمة التنظيم لم تزودنا الجهات المسؤولة بالمعلومات المتعلقة بالمفقودين، وبقي السؤال ذاته يتكرر في أذهاننا هل ما زال حياً؟”.
ويطالب “الحمود” أن تجرى تحاليل للجثث التي تم اكتشافها في المقابر الجماعية بنظام عالي ويختص على عملها أطباء ذو خبرة للتعرف على هوية الجثث في أقرب وقت وتعلم كل عائلة مصير فقيدها.
وفي الوقت الحالي تقع حفرة الهوتة تحت سيطرة الجيش الوطني التابع للدولة التركية، وتعتبر “الحفرة” حالياً مسرح جريمة لإجراء تحقيقات عليها عن الجرائم التي ارتكبها التنظيم سابقاً، بحسب “منظمة هيومن رايتس ووتش”.
جثث مجهولة
وشوهدت عدة مقابر جماعية في الرقة من مخلفات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد طرده من قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي في السابع عش من تشرين الأول/أكتوبر 2017.
ومنذ أواخر 2017، عثر على 28 مقبرة جماعية في مناطق متفرقة في الرقة وريفها، بحسب الاستجابة الأولية في الرقة.
ولاستخراج الجثث من المقابر الجماعية، تأسس فريق الاستجابة الأولية التابع لمجلس الرقة المدني في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2017، إلا أنه بدأ بالعمل في التاسع من كانون الثاني/يناير عام 2018.
وقال “ياسر الخميس” قائد فريق الاستجابة الأولية في الرقة، إن أغلب الجثث المنتشلة من المقابر الجمعية مجهولة الهوية لعدم وجود جهاز لفحص الحمض النووي (دي إن أي).
وتقوم لجنة الطب الشرعي بأخذ عينات لحفظها وتوثيقها من أجل فحص الحمض النووي، وإرسال هذه العينات إلى خارج البلاد للتمكن من معرفة بعض الجثث، بحسب “الخميس”.
وكان فريق الاستجابة الأولية في الرقة طالب الدول المانحة والمنظمات الدولية بالحصول على جهاز فحص الحمض النووي مع طاقمه الفني، “تلقينا عدة وعود لم يتم تنفيذ أي شيء منها”، بحسب “الخميس”.
وأضاف أن غالبية الجثث في المقابر الجماعية دُفنت تحت إشراف عناصر “داعش” وبطريقة همجية بهدف التخلص من الجثث للأشخاص الذين قد اعتقلهم سابقاً وقام بتصفيتهم.
وفي الثامن والعشرين من شباط/فبراير من 2018، اكتشف الفريق أول مقبرة جماعية في الرقة، في ملعب الرشيد قريب دوار النعيم وسط المدينة، وتوثقت هذه الجثث ثم أخذت عينات منها، بحسب “الخميس”.
وأشارإلى أن الفريق حالياً يخضع لدورات تدريبية مكثفة مع فريق تدريب أرجنتيني بمدينة أربيل في كردستان العراق، لتطوير الخبرات بقسم الطب الشرعي وقسم انتشال الجثث، بهدف تطوير عمل الفريق.
وينتشل الفريق الجثث، ويضعها في أكياس مخصصة لدفنها وإضافتها إلى سجل المفقودين.
ورغم انتشال 6100 جثة من المقابر في الرقة وريفها ومرور عدة سنوات يبقي “الموسى” ينتظر عودة والده مثلما ينتظر “الحمود” شقيقه، ففريق الاستجابة لم يتعرف سوى على 700 جثة منها، وفقاً لإحصائيات فريق الاستجابة.