الخميس 17 شباط/فبراير 2022
إنه لفي متناول إدراك العادي في السياسة وفي الشأن العام، عداك عن المتابع والملاحظ، عمق الآثار السلبية التي حفرها الاستبداد المزمن في شخصية المواطن السوري، والتي دفعته دفعاً إلى السلبية والانزواء، أو إلى الاحتماء بالأطر “العائلية والطائفية والمذهبية والعشائرية”، متوهما أنه يمكنه من خلالها أن يحقق أمنه ويؤكد شخصيته وحضوره. لقد أصبح مألوفا ومتوقعاً أن يغلف أي خلاف شخصي أو مهني بغلاف من نوع الأطر السابقة الذكر، إنه المكبوت والمسكوت عنه، وقد عومته الأزمات الخانقة التي يعيشها المواطن السوري من جراء الاستبداد المزمن والفساد المستشري والضائقة الاقتصادية.
منذ بداية انطلاق الحراك الشعبي ضد النظام السوري في آذار/مارس من عام 2011 وعلى امتداد الأزمة في سوريا كان كثير من السوريين ينوس بين خيارين لتحقيق بعض المطالب التي ثار من أجلها: إما خيار العنف، وإما خيار العمل السلمي الآمن المتدرج. لقد هيمن الخيار الأول على مجريات الصراع خلال سنوات الأزمة فكان من نتيجته بدلاً من إسقاط النظام وتحقيق المطالب أن تم إسقاط الشعب.
أما الخيار الثاني وهو خيار العمل السياسي والمدني السلمي الذي كان متاحاً قبل الأزمة بحدود ضيقة، صار ممكناً في جميع مناطق سوريا خلال الأزمة، بفضل تكنولوجيا الاتصالات والعالم الافتراضي، خصوصاً على الصعيد الإعلامي والسياسي والثقافي. ففي مناطق سيطرة النظام صار متاحاً بصورة أوسع مما كان عليه قبل الأزمة، لكنه متاح جداً في مناطق الإدارة الذاتية، وغير متاح في منطقة النفوذ التركي إلا للمجموعات الجهادية المتطرفة.
اللافت في منطقة سيطرة النظام أن القوى السياسية والمدنية الموجودة (أحزاب مرخصة وغير مرخصة) لا يزال جل اهتمامها يتركز على القضايا الكبرى (تغيير النظام، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية وجملة القضايا المرتبطة بذلك) في حين تكاد تكون القضايا المطلبية خارج دائرة اهتمامها مما أفقدها الكثير من مصداقيتها لدى الجمهور وحولها إلى مجرد تنظيمات نخبوية محدودة التأثير.
ورغم اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، حتى بات أكثر من 85% من السوريين في الداخل يعيشون تحت خط الفقر، لا يلحظ أي رد فعل شعبي على هذه الضائقة، بسبب ضعف العمل السياسي الجدي، وغياب العمل المدني والنقابي. وأكثر من ذلك صار كثير من السوريين يكفر بالسياسة والسياسيين ويحملهم المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في سوريا. في مثل هذه الظروف من الأهمية بمكان، إعادة إحياء العمل المدني، والتركيز على القضايا المطلبية دون إهمال القضايا الكبرى مثل قضايا الانتقال من النظام الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي.
تحضرني في هذا المجال تجربة كنت مساهماً فيها في اللاذقية قبل الأزمة حيث اجتمع عدد من المهتمين بالشأن العام وقاموا بتأسيس هيئة مدنية غير حزبية باسم “لجنة العمل الوطني الديمقراطي في محافظة اللاذقية”، لملاقاة احتمالات تفجر الأزمة وما يمكن أن تؤثره سلباً في العيش المشترك وفي السلم الأهلي. وقد اختار هؤلاء النشطاء طريقاً غير مألوف إلى ذلك هو طريق العمل الثقافي التنويري، والقيام بحملات للعلاقات العامة سواء باتجاه الشخصيات الاجتماعية والثقافية والسياسية في المحافظة، أو باتجاه المواطنين العاديين من خلال الاشتراك في مناسباتهم (أفراحهم ومأتمهم)، أو تسليط الضوء على قوى الفساد والاستبداد وتجاوزاتها الكثيرة. لقد كان موضوع الوحدة الوطنية من المواضيع الثقافية التي اشتغل عليها نشطاء اللجنة، فقدموها بصورة مختلفة عن فهم قوى الاستبداد لها بأنها الوحدة القائمة على “التنوع والاختلاف”، إنها وحدة “إيجابية فاعلة” تعيد المجتمع إلى السياسة، تعيد هيكلته في” منظمات مدنية وأهلية وأحزاب سياسية ونقابات حرة”. هذا وشكلت القضايا المطلبية والمشاركة في المناسبات الاجتماعية الشخصية والعامة المدخل لتوصيل خطاب اللجنة إلى الجمهور.
ومن أجل نجاح اللجنة في عملها شكلت ثلاث مجموعات عمل وزعت نشطائها عليها. فهناك مجموعة عمل للنشاطات الثقافية، ومجموعة عمل للنشاطات الاجتماعية، ومجموعة عمل لرصد الفساد في المحافظة. لم يمض وقت طويل حتى كانت اللجنة محط اهتمام كثيرين من سكان محافظة اللاذقية خصوصا بعد أن أنشأت وحدات فرعية لها في كل مدينة من مدن المحافظة. لم يرق هذا النشاط ، بطبيعة الحال، لأجهزة النظام الأمنية التي بدأت تضايقها بأن عمدت لحجب موقعها على الشبكة العنكبوتية، وإلى تخويف النشطاء وتهديدهم بالاعتقال. مع ذلك استمرت في العمل، وتشكل على غرارها، وبتحفيز منها لجان مشابهة في كل من محافظات حماة ودمشق ودير الزور، وكان كثير من أعضائها مساهمين نشطين في تشكيل لجان إحياء المجتمع المدني لاحقا.
لا بد من الإشارة إلى أن اللجنة عملت في ظروف شديدة التعقيد وفي مناخ يملأه الخوف. لا أغالي إذا قلت إن تجربة اللجنة تعد تجربة فريدة ومتميزة، ويمكن اليوم إعادة إحياء العمل المدني في التركيز على القضايا المطلبية كمداخل لإعادة السياسة إلى المجتمع والترويج لثقافة الحرية والديمقراطية ثقافة المواطنة والوطنية في ظروف مختلفة بعض الشيء خصوصا لجهة اتساع هوامش الحرية أو غض النظر الأمني، والاستفادة مما يتيحه الفضاء الأزرق من إمكانيات التواصل والحوار.
المصدر: نورث برس
- منذر خدام كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.