الثلاثاء 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2022
اجترح السوري رحلة ملحمية، أشدّ من الأوديسة، تسلل عبر حواجز النظام واقتحم الحدود والأسوار، وكانت كثيرة، والتاريخ رحلة. اجتاز المحيطات، وتخطى الغابات، وواجه وحوش البشر ووحوش البحر والبرّ، بعكس اتجاه الريح، ابتلع البحر عدداً غير قليل من النازحين، ونهب القراصنة مدخرات أجيال، لكن كثيراً منهم اجتاز العقبة حتى وصل إلى منازح الشمال الأوروبي، فوجد نفسه في امتحان كبير يطلقون عليه اسم الاندماج.
لعل ثمة كلمات أرقّ من الاندماج وأندى منها، فالاندماج عند الألمان هو العمل، عنوانها: إنه الاقتصاد يا غبي، فهي بلاد تقلّ فيها المواليد، ويكثر فيها الكهول، وتحتاج إلى أيد عاملة في المصانع النامية والمشافي الراقية، وكان الأتراك قد سبقونا، والسوريون طبقات وأجيال، والشباب ألين عريكة وأرقّ شكيمة من الكهول الذين جاوزوا برازخ منتصف العمر.
ويُظن أن الألمان يدركون أنهم يعوّلون على الأجيال التالية، الأول والثاني، فهما الثمرة المنتظرة، لكن الاقتصاد ونفقات العيش لن تدع أحداً عاطلاً عن العمل، فالحياة مطحنة حقيقية، وأول الجدران العالية التي ينبغي اجتيازها هي جدار اللغة، فاللغة الألمانية كثيرة النحو، شائكة القواعد، غزيرة التراكيب، على نقيض العربية. العربية لغة إعراب، والألمانية لغة بناء، تتلوها في صف العوائق حواجز الكراهية العنصرية.
لعل ثالث الحواجز هو تفضيل الألمان للوافدين من الاتحاد الأوروبي، من دول أوروبا الشرقية ووافدي أوكرانيا الذين أكرموا وعُزّزوا ووُقّروا، بسبب القرب الديني والفكري، حتى إنهم لم يطالبوهم بوثائق الشهادات.
العنصرية تعلو في أوروبا بصعود الأحزاب اليمينية، المذعورة من تدفق “الأغيار”، والنازحون يعانون من أشباح كثيرة أهمها بعد اللغة والسحنة، هو شبح انتهاء مدة الإقامة، وتعديل الشهادات العلمية الماراثونية، التي اقتضت أحياناً بدء الدراسة من جديد، ويكابدون مشقات تربية الأطفال المصدومين والمذهولين من صدمة المجتمع الجديد، سوى مشقات لمّ شمل العائلات الممزّقة، وإجراءات الدولة البيروقراطية العتيدة، وبطء عجلتها، وإلحاح المؤسسات الألمانية على دفع المرأة النازحة للعمل، فلم يعهد السوريون للمرأة عملاً بعد الاستقلال سوى الأعمال الناعمة في المكاتب، في الدفء والدعة، في حين تعمل الألمانيات في البناء وقيادة المواصلات الثقيلة مثل الباصات المقطورة والقطارات، وأعمال النظافة والبستنة.
لم يعهد السوري هذا النوع من العمل الشاق الذي يحرق يومه، فالمجتمع الألماني مجتمع صناعي، يستصغر “اليوسلز ايترز”، أي الذين يأكلون ولا ينفعون، وكان الكوميديان شارلي شابلن قد أنذر به في فيلم أضواء المدينة، فالعمل في ألمانيا الصناعية بلا رحمة، وهو ليس مثل العمل في الدول العربية التي تعيش على الريوع، قدرت إحدى الإحصاءات العمل الفعلي في الدول العربية بعشر دقائق في اليوم، وقد يبلغ نصف ساعة في بعض بلدان الخليج، بينما في ألمانيا هو ثماني ساعات، ليس فيها سوى نصف ساعة للطعام، وقد يمدد إلى ساعات إضافية، وتزعم قراءات لواقع العمل أنَّ فرصة المرأة السورية النازحة أقل من فرصة السوري النازح، مع أنها أبدت مهارة في تعلّم اللغة الجديدة مقارنة بالرجل، وثمة غياب للمؤسسات العربية أو السورية والجمعيات الراعية، لا تغني عنها تقارير صحافية يعدّها صحافيون سوريون وفدوا قديماً إلى ألمانيا، مطّلعون على الشأن الألماني.
وتدل تجارب أن السوريين المطّلعين بالعلوم الحاسوبية، وشؤون الرعاية الصحية، أسرع اندماجاً من غيرهم، لحاجة سوق العمل الألمانية إليهم، وأسرع قبولاً في سوق العمل، فلغة العلم الحاسوبي لغة عالمية، في حين يعاني خريجو العلوم الإنسانية الذين وجدوا أنفسهم في قاع المنطقة الصفرية.
تقبل سوق الخدمات المهاجرين مثل العتالة وتصنيف الحقائب والطرود، وهي مهن شاقة، وهي سوق كبيرة ومتاحة أيضًا، ولا تحتاج إلى لغة لكن السوري به فخرٌّ وكبر، وهو خُلق عربي جاهلي قديم.
يبدي السوريون عجزاً عن تأسيس جمعيات سورية لضعف الرابط الوطني، وتفشي الكراهية المناطقية، وغياب التجربة السياسية، والجهل بالقوانين الألمانية، والمخارج الحقوقية، ويطمح سوريون مخضرمون إلى مخاطبة المؤسسات الألمانية الراعية للاستفادة من المهاجرين، بالتفريق بين اللاجئ والمهاجر، والتمييز بين الشاب والشيخ من حيث ساعات التعليم، والمساعدة في إنشاء جمعيات سورية تعين السوري وتأخذ بيده، وتجمع شمل أبناء وطنه في المهجر، وقد رأينا ألماناً يتطوعون لتعليم المهاجرين اللغة الألمانية في مخيمات النزوح، وشارك كثيرون في موائد رمضانية قبل وباء الكورونا، سرّ بها الطرفان، وهم يقرعون الأبواب بخجل بغية الوصول إلى السياسيين لمساعدتهم في تخفيض الخطاب العنصري، والمساعدة في استئجار البيوت، فهم يعانون منها كثيراً، لكن كل هذا يحتاج إلى وسيلة اتصال، فلغة الإيموجي والإشارة لا تسمن ولا تغني من جوع.
لقد كانت الحروب والزواج، أهم باعثين لنشوء الثقافة، ومن المظنون أن ثقافة عربية ألمانية ستنشأ، يدل عليها دخول مفردات ألمانية إلى العربية ودخول مفردات عربية جديدة إلى الألمانية، ففيها نحو ألف لفظ عربي ذكرتها زيغريد هونكة في كتابها الشهير “شمس العرب تسطع على الغرب”، وهي أكثر من ألف كلمة بكثير، بحسب نظرية تقول بأصل اللغات الواحد.
يزعم كاتب السطور أن الاندماج السوري في ألمانيا أسرع من اندماج السوري في سوريا، فقد كان السوري كائناً أخرس، ممنوعاً من الكلام، يعمل بأجر أقل من معونة الدولة الألمانية للعاطلين عن العمل، لكنه يستطيع أن يتعلم في ألمانيا، بل وأن يتفوق، وحريته أكبر بما لا يقاس، والخدمات في ألمانيا أكثر أيضاً، يعيب بعضهم على السوريين براعتهم في مجال واحد هو المائدة والمطاعم، وهو مضمار كبير، وقد سمعنا بأسماء علماء سوريين، وساسة تبوَّءوا مناصب سياسية في برلمانات أوروبية في ألمانيا وكندا وأميركا، والسوريّون هم مبدعو الكتابة بحسب شهادات تاريخية مؤكدة، تدلُّ عليها الألواح والرُّقم المكتشفة في الآثار واللقى، ولا يزال فيهم حبُّ العلم والتعلم. لعلها ولادة جديدة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
- أحمد عمر كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.