السبت 7 كانون الثاني/يناير 2023
شكلت أحداث السويداء خلال الأسابيع الماضية مناسبة لعودة الحياة إلى نوعية من الخطابات السياسية السورية التي يُمكن تسميتها بـ”الماضوية”: تلك المتخمة بطاقة متفجرة من الرومانسية الولهة بمخيلات وأحاديث مطولة عن الوطنية السورية ووحدة المجتمع السوري ونفي وجود أي تناقضات داخله، مع أعتاد كبير بالخطابية الفوقية، مستعينة بنكران الوقائع الميدانية في الحياة السياسية والعامة في البلاد، سواء في منطقة السويداء أو في عموم البلدان.
ومع كل ذلك، فإنها خطابات تتخيل وتفترض امتلاكها لحلول مُقتضبة ومقترحات جاهزة، بسيطة وناجزة، لكل المشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع والحياة السياسية والاقتصادية في البلاد.
تكرار تلك الخطابات بشكل دوري، كلما عادت أحداث ما شبيهة بما يجري في السويداء راهناً، إنما يدل على وجود منبع ما جوهري، تصدر منه تلك الخطابات: هو مجموعة القوى السياسية والشخصيات النُخبوية السورية، التي تملك في ذاتها وآليات تفكيرها ترسانة من الثوابت المحكمة والمطلقة، كسبتها وراكمتها طوال تاريخها السياسي، منذ عقود سابقة كثيرة. ثم تمركزت حولها وجعلت منها مقدسات سياسية وفكرية وعقائدية، وقبل ذلك أدوات للمنطق والقياس، تحاكم حسبها كل حدث سياسي أو ظاهرة تتعلق بالشأن العام. ولأجل ذلك بالضبط، فإنها لا تتوقف عن تكرار نفسها لمرات لا تُعد.
ثمة ثلاثة منابع رئيسية لهذا النهر من الخطابية السياسية، التي تنتج على الدوام ذلك النوع من الوطنية السورية الفوقية، وما تزال:
شكلت القومية العربية المطلقة، بتراثيها القديم والحديث على حدٍ سواء، مصدراً أولياً وأساسياً لتلك الخطابية. فنكران هذه النوعية من القومية العابرة للحدود والمجتمعات للكيان السوري، منع مختلف المنتمين إلى تيارها الاعتراف بوجود تناقضات داخلية سورية، طائفية وقومية ومناطقية، على أشكال من الحساسيات والصراعات والمزاحمات، لكن أولاً منع الإقرار بوجود أنواع من القوميات المحلية، التي تملكها جماعة أهلية ما أو أخرى، لا تعتد بالبلدان والجغرافيات الكبرى، وتعتبر القومية العابرة للحدود مجرد فضاء ثقافي وروحي فحسب.
إلى جانب ذلك، كان الإسلام السياسي أصلاً ثانياً لتلك الخطابات الوطنية الفوقية. فنوعية التقية السياسية وتجيير العبارات لتكون ضمن “قاموس المكاذبة” الذي تعمل عليه، إلى جانب الفوقية الذاتية، المتمثلة باعتبار “العرب السُنة” هم الأمة، بينما الآخرون هم اللامرئيون. خلقت مجتمعة “إنسان الإسلام السياسي”، الذي لا يُمكن معرفته وكشفه أو القبض عليه، بمعنى ما. فهو كائن غارق في بحر من العبارات والخطابات الوظيفية، التي ليس لها أية مصداقية أو دلالة على الوقائع الميدانية.
اليسار السوري الماركسي، المعارض والموالي على حد سواء، كان ثالث مصادر تلك الخطابات. فذلك التيار السياسي الذي اجتاح طبقات واسعة من المثقفين والمتعلمين السوريين، خلق ثابتاً فكرياً دائماً، يعتبر أن التوزع والتناقض داخل سوريا هو طبقي فحسب، بين فقراء مقموعين ومستغلين قامعين، سواء أكان هؤلاء الأخيرين سياسيين أو أثرياء. وتالياً جرموا فعلياً أي مفاتحة للمواضيع الطائفية والمناطقية والقومية في البلاد، فاختصروا سوريا ببعض العبارات المبسطة تلك.
كانت نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات مرحلة مهمة لانصهار تلك الخطابات الثلاثة فيما بينها، ومن موقع الهزيمة المشتركة التي طالتهم أجمعين.
فالقومية العربية الإطلاقية فقدت بريقها بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وما رافقها من أحداث. والإسلام السياسي شهد هزيمة مشابهة، حينما اكتشف هول مشروعه العنفي والراديكالي. فيما ذوت اليسارية الماركسية بفعل التقادم بالزمن، بالذات بعد مراحل تفكك مشروعها العالمي.
شكلت الوطنية السورية، الخطابية والمجردة، خيمة كبرى لكل هؤلاء، يحورون ويخبؤون في ظلالها “عورات” ما أعترى مشاريعهم السياسية والفكرية التي كانت.
لكن التحول من تلك المنابع نحو الخيمة الوطنية لم يمنع أياً منهم من الحفاظ على نفس الخطابات وآليات المنطق والتفكير في الحياة السياسية. لذا أفرزوا نخبة سياسية وثقافية “ماضوية”، توقف بها الزمن منذ أوائل التسعينات، كان أبناء المنابع الثلاثة هذه يعتقدون بأن كلمة واحدة اسمها “الوطنية”، قد تكون كافية لحل كل شيء. ولم يستطيعوا التحرر من ذلك الوهم، إلى الآن.
المصدر: نورث برس
- رستم محمود كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.