الاثنين 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023
في عام 2012 تلقيت دعوة لحضور مؤتمر الحوار الوطني السوري الثاني الذي أقامته دمشق وقتها في كل سوريا. تحدثت في المؤتمر بصفتي الشخصية كمعارض مستقل بأننا “يجب أن نعمل للانتقال إلى “الجمهورية الثالثة” (الأولى حتى 1963 والثانية حتى اﻵن)، بعد أن عفى الزمان على عقليات الحاكمين وتسببت سياساتهم في مصادرة الحياة السياسية السورية وتحويل البلاد إلى سجن كبير، وأننا يجب أن نستبق وصول الاحتجاجات إلى نقطة اللاجدوى واللاعودة، وإلى نقطة أهم وهي الاستثمار في الاحتجاجات إقليمياً ودولياً.
كانت التقديرات السياسية مرتكزة وقتذاك على فكرة مفادها أنّ “الدولة” في العالم العربي هي الأكثر قدرةً على تحويل المجتمعات والذهاب بها إلى الحداثة والديمقراطية، وكان الرهان على امتلاك الدولة “العقل” والأدوات القانونية والتشريعية والتنفيذية بما هي ضامن للصراعات المجتمعية نفسها، وبما هي جزء أساسي من تجذر فكرة الدولة الضامنة في عالم اليوم كـ “كيان” حداثوي منتمٍ للعولمة متحرر من مستويات التفكير ما قبل الوطنية، ولو أنّ تاريخ المئة عام الفائتة من حياة سوريا الدولة لم يخل من آثار مستويات التفكير ما قبل الوطنية.
هذه الفكرة، أستعيدها اليوم بعد مضيّ شهر على احتجاجات السويداء، ومضي عقد على التصارع الداخلي، حيث يبدو المشهد السوري من جديد غامضاً في راهنه ومستقبله، إلى حدود تبدو معها الجغرافيا الاستعمارية على عتبة إعادة رسم خرائطها من جديد، وهذه المرة على مستويات ما قبل وطنية بوضوح شديد ترسّخه الانقسامات على الأرض.
قد تبدو للبعض فكرة الارتكاز على “الدولة” بإحداث التغيير في حياة السوريين من باب المُتخيّل غير المنطقي، بالنظر إلى صعوبة، إن لم نقل استحالة، الفصل بين النظام والدولة، وتشكيل الأول ما يمكن وصفه “بدولة ضمن الدولة” تشبه النموذج العراقي أيام صدام حسين، ثم سيظهر سؤال منطقي: ما هي هذه الدولة التي يعوّل عليها وهي منقسمة واقعياً إلى ثلاثة أو أربعة “سلطات” تتجاذب فيما بينها النيران وتحكمها التناحرات الإقليمية والدولية؟ ثم كيف سيحصل ذلك، أليس هذا من باب “تجريب المجرّب”؟ ثم كيف “للدولة داخل الدولة” أن تقود عملية تغيير قد تودي بها وبقوّتها في مهب الريح؟ وهل تتجرأ هذه “الدولة” ـ وهي النظام بوضوح ـ على القيام بأي تغيير في ظل رفضها التغيير على مدار السنوات العشر الفائتة؟
إضافة إلى ما سبق من الاعتراضات، فإنّ سياق العقد الفائت من عمر الكارثة السورية، وممارسات النظام كما المعارضة، تشير إلى معادلة صفرية؛ فالواضح أنّ لا إصلاح ولا حلول حقيقية يرغب بها النظام أو المعارضة وكل منهما يمتلك حججه وأسبابه، والضحية الحاضرة هي الشعب السوري بكل الجغرافيات، فكيف يمكن من جديد التعويل على هذه أحد هذه الأطراف في بناء سوريا جديدة على أسس الديمقراطية وتبادل السلطة والمواطنة وغيرها؟
إن النتيجة الواضحة لعقد من الخراب والتخريب بين النظام والمعارضة المُنتَجة بمفاعيل إقليمية لا وطنية، هي بلاد في نزعها الأخير، في الاقتصاد والمجتمع والسياسة وجوانب أخرى، لكن الواضح أنّ النظام الذي يدير هذا الخراب، ما زال ناجحاً في البقاء على رأس الدولة، وأنّ سقوطه مما ليس ممكناً ضمن الأدوات المتاحة حالياً (التظاهرات والاحتجاجات) أو التدخل الخارجي، وهذا ليس تقليلاً من شأن الاحتجاج الضروري للدفع باﻹصلاح، بل ﻷن الاحتجاج مهما كان واسعاً وقوياً، في الغالب لا يمتلك أدوات التخلص من نظام معشعش في قلب الدولة ويمتلك للساعة أدواتها ومؤسساتها، وتجربة مناطق المعارضة في إدارة شؤون مجتمعاتها توضح القصور في المؤسسات التالية لعهد الدولة فيها.
بقاء النظام طيلة هذه السنوات، لا يعني أنه هو نفس نظام عام 2011، فهناك ما يقرب من نصف البلاد خارج سيطرته، كما أنّ ولاء الموالين له بات في حدّه الأدنى حتى داخل المؤسسات المكلفة حماية النظام نفسه، وإذا أضفنا العزلة الدولية وقانون قيصر والنفور العربي من ألعاب المخدرات وغيرها، سنجد أنّ القوة المركزية السورية للنظام في حدّها الأدنى، ولكن هذا ليس كل شيء.
أضافت قطيعة أهل السويداء مع النظام خسارة جديدة له بعد تغير وارتفاع مستوى خطابهم من الإصلاحي المطلبي إلى “إسقاط النظام” وإغلاق فرع البعث في المدينة وظهور طروحات تدعو بوضوح للتخلص من وصائية المركز ومؤسساته على المجتمع وبضمنها البعث المسيطر على الفضاء العام بالضرورة، وفي حال اكتملت هذه الخطوات فإن حراك السويداء يكون قد انتقل خطوة نحو القطيعة مع دمشق، لكن الأخيرة لن تقف مكتوفة الأيدي وستجد سبلها لاستعادة السيطرة ولو طال الوقت شهوراً وسنيناً.
ما يمنع أن يكون هناك قطيعة نهائية بين نظام دمشق وحراك السويداء ربما يكمن في طبيعة حراك السويداء نفسه، ليس بما هو حراك أقلياتي ذو سمات علمانية مطلوبة سورياً وتلقى الترحاب من جغرافيات سورية أخرى بما فيها موالو النظام في الساحل، بل لافتقاد الحراك لكيان أو برنامج سياسي عملي، فالشعارات مهما كانت نبالتها وقوّتها وعلمانيتها “لا تنتج فعلاً سياسياً، وهي صرخة قهر لدى البعض وقربان طهرية لآخرين وحالة انتقامية وتعبير مظلومية لغيرهم” وأستعير هنا تعبير الصديق والناشط “رواد بلّان” من السويداء.
ولكن وأمام المشاهد السابقة كلها، فإن السلطة السورية التي أتعبت البلاد والعباد، وخسرت كثيراً من أوراقها الداخلية، لم تفلس بعد من أوراق القوة، ولديها ما يمكّنها من لعب دور فاعل إنْ أرادت عدم الوقوع في الفخ العراقي وتكرار سيناريو الغزو الخارجي عندما تصل الاستعصاءات الإقليمية إلى ذروتها.
إنّ ورقة الدولة، السهلة – الصعبة التي تمتلكها دمشق، التي تهمنا هنا، تستفيد من خلوّ الساحات السورية من القوى التغييرية الحقيقية التي ساهم النظام بوصولنا فيها إلى هذا الحال عبر تغييب الديمقراطية والمواطنة وغيرها من محددات الدولة الحديثة، يضاف لها نتائج الربيع العربي التي انتهت غالبيتها إلى خراب عميم، ونضيف عوامل ذاتية أخرى مرتبطة بمستقبل النظام عالمياً.
ورقة الدولة هذه، وفي أي وقت، هي ورقة صالحة للبناء عليها، وحتى مع قطيعة السوريين شبه الكاملة مع السلطة، فإن السلطة يمكن أن تتفادى الأسوأ عليها وعلى شعبها، بقيادتها عملية تغيير جذرية ليست بالأمر المحال، في ظل وعي الجغرافيات السورية أن مصيرها واحد مهما تعدد الرعاة في عالم يزداد توتراً وفقراً وأوبئة وتصحراً.
ما يمكن أن تذهب إليه دمشق، بورقة الدولة، بصفتها المركز، العمل على تحويل مسار النزاع السوري الناتج عن أسباب كثيرة إلى موقع جديد تستعيد فيه شرعيتها المبنية على كونها ضامناً لمرحلة انتقالية تنتهي بعد سنوات بنظام سوري جديد تتولّد شرعيته من الانتخابات وليس من الدبابات ولا الاحتلالات، وبنفس الوقت تحافظ فيه دمشق على نفسها وتدخل لاعباً ضمن النظام الجديد، وهذا لن يمر دون عملية ولادة قيصرية صعبة.
قد يكون مؤتمر حوار وطني سوري متشعب في كل الجغرافيات السورية مفتاح الانتقال الرئيسي، ولا نستعيد هنا تجربة المؤتمرات السابقة الفاشلة، إذ يجب أن تنتهي هذه المؤتمرات إلى لجان تأسيسية تمهد للخطوة التالية وقراراتها ملزمة للجميع.
هناك العديد من الأفكار التي قد تفتح باب المصالحة الوطنية بين السوريين والدولة والنظام، لعل أبرزها وقف تسخير الدولة لفرض هيمنة النظام على المجتمع، وفتح المجال العام نحو انتخابات حقيقية للإدارة المحلية، والانسحاب من احتلال الفضاء العام بالقوة الأمنية، والعمل على إنتاج قوانين عصرية تسمح بالتخلص من الوصائية والمراقبة والمعاقبة على كل اجتماع سوري.
المصدر: نورث برس
- كمال شاهين كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.