الجمعة 20 كانون الأول/ديسمبر 2024
في الثامن من ديسمبر، طوى الشعب السوري صفحة مظلمة من تاريخه بعد عقود من حكم نظام الأسد الطاغية، الذي ترك خلفه إرثًا من الجرائم والانتهاكات المروعة. ومع تحرير البلاد، انفتحت أبواب السجون لتكشف عن فظائع التعذيب، في حين تعيد صور المدن المدمرة إلى الأذهان أهوال القصف الوحشي الذي استهدف المدنيين الأبرياء. ومع كل حالة تظهر، يتجدد السؤال المحوري: كيف يمكن مواجهة هذا الإرث الثقيل من دون السقوط في دوامة الانتقام؟
الإجابة ليست سهلة، ولكنها تبدأ بالعدالة الانتقالية، كمسار شامل لمعالجة آثار الماضي المؤلم وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة.
جرائم النظام: ضرورة المحاسبة
مع تحرير سوريا وفتح السجون، تتوالى التقارير عن الجرائم المروعة التي ارتكبها النظام بحق أبناء الشعب السوري. صور الجثث الهزيلة في أقبية التعذيب، وقصص المعتقلين الذين فقدوا حياتهم تحت وطأة التعذيب الممنهج، أظهرت جانبًا من المأساة. لكن الكارثة الكبرى تكمن في مشاهد الدمار التي خلفها القصف الوحشي الذي استهدف أحياء سكنية، أسواقًا مكتظة، ومستشفيات مليئة بالجرحى والأطفال.
المحاسبة هنا ليست مجرد مطلب شعبي، بل ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم. يجب أن تشمل المحاسبة:
- محاكمة الضباط العسكريين المسؤولين عن القصف الوحشي: قادة الفرق العسكرية والطائرات الذين أمروا أو نفذوا هجمات عشوائية أو ممنهجة ضد المدنيين.
- محاسبة المسؤولين عن استهداف المستشفيات والمدارس: استهداف المنشآت المدنية هو انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني، ويجب أن يُواجه بالعدالة.
- تقديم مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة الدولية: ضمان أن تصل المحاسبة إلى أعلى هرم القيادة العسكرية والمدنية في النظام، الذين خططوا وأشرفوا على هذه الجرائم.
دور العدالة الانتقالية في سوريا المحررة
العدالة الانتقالية في سوريا لا تقتصر على محاسبة المسؤولين عن التعذيب فقط، بل تشمل مواجهة كل الجرائم الكبرى التي ارتكبها النظام، بما في ذلك القصف الوحشي، من خلال خطوات شاملة:
1. جبر الضرر للضحايا وأسرهم
ضحايا القصف، سواء كانوا من الجرحى أو من عائلات القتلى، يحتاجون إلى تعويضات مادية ومعنوية. إعادة بناء منازلهم ومدنهم المدمرة هو جزء أساسي من تحقيق العدالة.
2. تأسيس لجنة للكشف عن الحقيقة
على غرار تجارب دول أخرى، يجب تشكيل لجنة وطنية تعمل على توثيق الجرائم التي ارتكبها النظام، بما في ذلك الهجمات الجوية والبرية التي استهدفت المدنيين، للكشف عن المسؤولين عنها.
3. الإصلاح العسكري
إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية ضرورة لضمان عدم تكرار الجرائم. يجب فصل القادة الذين تورطوا في الجرائم واستبدالهم بقيادات ملتزمة بحماية المدنيين واحترام القانون الدولي.
4. تعزيز المحاكمات العادلة
محاسبة المسؤولين عن القصف الوحشي، سواء كانوا طيارين، ضباطًا، أو مخططين، يجب أن تتم عبر محاكمات عادلة وشفافة تحترم حقوق الإنسان، لتعزيز الإيمان بالعدالة بعيدًا عن الانتقام.
التحديات أمام العدالة الانتقالية في سوريا
تطبيق العدالة الانتقالية يواجه تحديات ضخمة، أبرزها:
- غياب مؤسسات قضائية قوية: النظام السابق دمر القضاء وجعل منه أداة للقمع. بناء قضاء مستقل هو ضرورة لتطبيق العدالة.
- التعقيد السياسي والعسكري: وجود قوى وأطراف متباينة قد يجعل المحاسبة عملية حساسة تحتاج إلى توافق داخلي ودعم دولي.
- حجم الدمار والمعاناة: ضخامة الانتهاكات وضيق الموارد قد يؤخر جبر الضرر وإعادة الإعمار.
العدالة أم الانتقام؟
رغم فداحة الجرائم، يجب على سوريا أن تميز بين العدالة والانتقام. ففي حين يغذي الانتقام الكراهية والانقسام، تقدم العدالة الانتقالية مسارًا للمحاسبة الشفافة التي تعالج جذور الأزمة وتمنع تجددها.
ختامًا: نحو سوريا عادلة ومستقرة
تحرير سوريا من حكم الأسد الطاغية هو خطوة أولى نحو الحرية، لكن السلام الحقيقي لن يتحقق من دون معالجة إرث الجرائم التي خلفها النظام. العدالة الانتقالية ليست رفاهية، بل ضرورة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، وجعل سوريا نموذجًا لدولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن العدالة لجميع مواطنيها.
محاسبة العسكريين الذين أمروا ونفذوا القصف الوحشي، مع محاكمة المسؤولين عن التعذيب والانتهاكات الأخرى، هي الطريق الوحيد لإعادة الحقوق لأصحابها وضمان عدم تكرار هذه الجرائم. سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لتأسيس دولة قانون وعدالة، ولن يتحقق ذلك إلا عبر إرادة وطنية ودولية صادقة تضع العدالة في صدارة الأولويات.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
- نبراس إبراهيم كاتبة سورية