فنٌّ منمّق يحمل في طياته عبقرية حرفية لا تُضاهى، تتحول فيه قطع صغيرة جداً إلى لوحات فنية ساحرة، إنه فن الفسيفساء؛ أو الموزاييك كما يُعرف أيضاً، وهو مصطلح لاتيني يصف فن اللوحات الجدارية الخالدة التي تعود إلى أكثر من ثلاثة عصور خلَت، وقد أخذ مبدعو سوريا وحرفيوها حصة كبيرة من هذا الفن العظيم الذي يتطلب موهبة كبيرة ودقة وإبداع متناهيين.
الفسيفساء السورية تتحدى الزمن
تعد الفسيفساء السورية من أجمل أنواع الفسيفساء في العالم، ويعود ذلك إلى التقنية العالية المستخدمة في تصنيعها، وثراء الموضوعات التي تجسدها، وقد ارتبط هذا الفن منذ القدم بالعمارة والزخرفة، فتراه على الجدران والأرضيات داخل القصور ودور العبادة، وما زال لهذا الفن حيويته في عصرنا الحالي، إذ يبدع الحرفيون والفنانون في مختلف المدن السورية، ليقدموا لوحات إبداعية تنطق من شدة جمالها وإتقانها.
ازدهر فن الفسيفساء في العصر الأموي، واللوحات الجدارية في الجامع الأموي شاهدة على ذلك، كما كان له دور مهم خلال العصر الروماني، وفي الماضي، كان فن الفسيفساء يتطلب جهداً كبيراً إلى جانب الدقة والإبداع، إذ كان الرخام يُقصّ يدوياً قبل دخول الآلة، لذا، اقتصرت الحرفة في البداية على الرجال، لكن مع مرور الزمن، تعلمت النساء هذه الصناعة وتمسكن بها خوفاً عليها من الاندثار.
اقرأ أيضاً: قصر العظم: كنز معماري وجنّة عشّاق الفخامة والأصالة
وبثرائها وتنوعها، تقسم الفسيفساء إلى نوعين رئيسيين: الفسيفساء الزجاجية والفسيفساء الحجرية، تُبدَع الفسيفساء الزجاجية من خلال خطوات دقيقة، حين يبدأ الفنان برسم الشكل المرغوب باستخدام أقلام الفحم على ورقة أو كرتون مقوى، ثم يُغطى الرسم بقطعة من النايلون الشفاف لحفظه، بعد ذلك، تستخدم قطع زجاجية ملونة، تُثبت بمادة لاصقة مثل الغراء بحسب هندسة الشكل، ثم توضع على قطعة رخامية أو خشبية بنفس مقاس اللوحة لزيادة تماسكها.
أما الفسيفساء الحجرية، فتقوم على استخدام أحجار طبيعية، مثل الرخام أو الحجر العادي أو الغرانيت، وتكون ألوانها متناغمة مع التصميم، وفي بعض الأحيان، يقوم الحرفي بطهو الحجارة وتلوينها إذا لم تكن الألوان المطلوبة متوفرة، بعد ذلك تُقص هذه الأحجار بأبعاد وسماكات معينة، ويبدأ العمل برسم الشخصيات أو الرسوم الهندسية على قطعة قماشية بيضاء من الخيش، وفيما بعد، تُلصق الأحجار على اللوحة، وتحاط بإطار حديدي.
تبدأ عملية حصر اللوحة داخل الإطار بوضع الورقة في الأسفل، ثم تُحضّر مونة تتكون من الأسمنت والرمل الناعم مع الماء، وتُسكب فوق قطع الفسيفساء داخل الإطار، وتُترك لتجف، بعدها، يُقلب الإطار مع محتوياته، وتُستخدم إسفنجة مبللة لدعك الورقة وتسهيل انتزاعها والحصول على لوحة فسيفسائية ملونة وجميلة، وتُترك لتجف قبل أن تبدأ عملية الشحذ والجلي لإزالة أي بقايا.
ويستخدم بعض الفنانين في لوحاتهم قطع الأخشاب المحلية مثل الجوز والليمون والزيتون والأوكالبتوس، أو حتى الأصداف، حيث تُرصف جنباً إلى جنب لتشكل اللوحة الفنية.
وتتشابه معظم تصاميم الفسيفساء في سوريا، فهي مستلهمة من حياتنا اليومية، قد تراها تحتوي على رسومات هندسية ونباتية وحيوانية، أو موضوعات دينية وأخرى غزلية، أو أشكال معينة تعكس صفات البطولة والشجاعة، وقد تجاوزت هذه اللوحات جدران المعارض، لتزين جدران وأرضيات مداخل الفلل والقصور والحمامات والجدران والأرضيات، بفضل قدرتها على مقاومة العوامل المناخية.
اقرأ أيضاً: أفضل الهدايا التذكارية التي يمكنك شراؤها من سوريا
الفسيفساء في المدن السورية
تعد مدينة إدلب وريفها من المناطق المشهورة بالفسيفساء، فمتحف معرّة النعمان من أكبر المتاحف في الشرق الأوسط وأشهرها، ويحتوي على لوحات تعود إلى ما قبل الميلاد، بما في ذلك تصميم كنيسة قلب لوزة التي ألهمت المعماريين الفرنسيين في تصميم كنيسة نوتردام الشهيرة في باريس، وحتى الآن يوجد العديد من الحرفيين الذين يمارسون هذا الفن في إدلب من خلال مشاغل صغيرة.
وفي دمشق، نشأت حرفة الفسيفساء في أحضان المدينة القديمة، وباتت جزءاً لا يتجزأ من العمارة في المنطقة، فزيّنت القصور والحمامات والمساجد والمكتبات العامة والمنازل الخاصة.
وعلى الرغم من التحديات التي واجهها فن الفسيفساء الدمشقي في السنوات الأخيرة نتيجة لهجرة الحرفيين والتأثيرات الاقتصادية للصراع، إلا أنه لا يزال رمزاً للتراث السوري العريق.
وفي السياق ذاته، يرى الباحث الهولندي مات أميرزيل (الاسم باللغة الأصلية أو الإنكليزية) من جامعة لايدن، أن فسيفساء بروميثيوس في مدينة شهبا، التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، تتميز بعدد من الخصائص التي تميزها، سواء من حيث المضمون أو الشكل، ورغم وجود بعض الأساليب البدائية في هذه الفسيفساء، فإن ذلك لا يقلل من قيمتها كعمل كلاسيكي.
وبرومثيوس هو أحد الجبابرة في الميثولوجيا الإغريقية، كان محبوباً من الآلهة، وقد أوكل إليه زيوس مهمة خلق المخلوقات، فأنشأ الحيوانات ومن ثم الإنسان على هيئة الآلهة، فثار غضب زيوس، وكان برومثيوس رحيماً بالبشر، وعندما حرمهم الآلهة من النار، سرقها وأعطاها لهم، كما أثار غضب زيوس بتقديمه الأجزاء الأقل قيمة من الحيوانات كقرابين لهم.
حماة أيضاً، تعد موطناً لأشهر اللوحات الفسيفسائية في سوريا والتي تعود إلى عصور مختلفة، ويشير حرفي فسيفساء من حماة إلى أنه يستخدم أنواع عدة من الأحجار في لوحاته، مثل الرحيباني والقرواني والحموي والكروي الأحمر والأسود والبازلتي.
اقرأ أيضاً: الأغباني الدمشقي: فن ينسج الجمال في كل خيط
تحديات فن الموزاييك
تحمل لوحات الموزاييك السوري قيمة فنية وتاريخية، ونظراً لذلك، شهدت هذه التحف الفنية محاولات سرقة عديدة من قبل لصوص الآثار، أحد هذه المحاولات كانت عملية جريئة استهدفت تهريب عدد كبير من اللوحات الفسيفسائية السورية إلى كندا، وقد سعى اللصوص لإخفاء هويتها الأصلية من خلال الادعاء بأنها لبنانية، مستغلين عدم توقيع لبنان على اتفاقية اليونسكو حول حماية الآثار.
لكن ذكاء السلطات الكندية حال دون نجاح هذه المخططات، وتمكنت حينها من استعادة 39 لوحة فسيفسائية سورية من أصل 54 لوحة وأعادتها إلى وطنها الأم سوريا، بناءً على الاتفاقات الدولية.
إلى جانب ذلك، يواجه حرفيو الفسيفساء في سوريا تحديات عديدة، فتأمين الرخام اللازم للوحات صعب جداً، كما يعانون من نقص الزبائن المحليين والدوليين بسبب ارتفاع أسعار المنتجات. ورغم هذه الصعوبات، يصرّ الحرفيون على الحفاظ على هذه الحرفة، ويسعون لتعليمها للأجيال القادمة، على أمل استعادة تألقها والعودة بها إلى عصر الازدهار، فهي تستحق أن تظلّ رمزاً للفن والتراث السوري الخالد.
اقرأ أيضاً: مساجد تاريخية في سوريا روائع العمارة الإسلامية