دقائق صمت طويلة وقفت فيها أمام صورة لاستخلص منها الصوت الذي يحاول مصورها إيصالها، للحظة اعتقدت أنها صورة عابرة، لا تكاد ترقى لكل هذا التفكير، إلا أن الفضول القوي أعادني للبحث عنها، إنها مدينة دير الزور، أو المدينة المنسية كما أحب أن أسميها.
في لمحة تاريخية سريعة عن دير الزور نستطيع أن نقول أنها كباقي محافظات الشمال الشرقي توالت عليها الحضارات كالسومرية والآشورية والرومانية والإسلامية، كما توالت عليها الحروب، ولطالما تأثرت المدينة بالتحولات السياسية التي شهدتها سوريا بعد الاستقلال، إلى أن استولى حزب البعث على السلطة، فتوسمت تلك الفترة بقفزة تعد نوعاً ما نوعية، كبناء سد الطبقة الذي ساهم في تحسين الزراعة، كما كان هناك تطوير من ناحية التعليم والصحة.
خلال حقبة الألفية الجديدة لم ترقَ دير الزور بحصتها التنموية إلى مستوى الإنتاج المحلي الذي قدمته لسوريا، فقد عانت هذه المدينة من التهميش على الرغم من بعض الإصلاحات كشبكة مواصلات جيدة للطرق الرئيسية التي تصل الدير بمحافظات الحسكة والبوكمال والرقة، وأيضاً شبكة من المواصلات التي تصل مرجز المدينة بالريف كبلدات الموحسن والبصيرة والميادين، إضافة إلى وجود مطار دير الزور المدني وسكك القطار التي تربط الدير بمحافظات حلب ودمشق، عدا عن وجود مجموعة من الجسور التي تسهل عملية النقل بين ضفتي نهر الفرات، وعلى صعيد الخدمات تم تأمين شبكات الكهرباء والماء، إلا أن الاستثمار في البنى التحتية كان خجولاً، فبالرغم من إنشاء السدود على نهر الفرات إلا أن بعض القرى كانت تعاني من انقطاع في المياه والكهرباء، وعلى الصعيد الصحي، نعم كان هناك مستشفيات حكومية كمشفى الأسد، إلا أن كوادره ضعيفة وغير كافية، لذا كان أهل الدير يقصدون دمشق وحلب للعلاج.
وعلى الصعد الأُخرى تم افتتاح جامعة الفرات عام 2006 إلا إنها لم ترقَ لمستوى جامعات حلب ودمشق، زادت نسبة البطالة في المدينة نتيجة اختصار فرص العمل إما في الزراعة أو النفط (23.5% في عام 2011)، والجدير بالذكر أنه تم استحداث بعض المصانع كمطاحن القمح ومعاصر الزيتون ومصانع المنتجات الغذائية.
دير الزور خلال الثورة السورية
تشرذمت خيرات دير الزور بين مطامع المتقاتلين على خيراتها، فلا استطاعت التنعم بهذه الخيرات، ولم تستطع أن تنعم بالأمان، فشهدت أرضها تناوب القوات والمقاتلين تارة بين القوات الحكومية وقوات المعارضة، وتارة بين قوات قسد والعشائر العربية، ولعل أبرز ما دمرها هو وجود تنظيم الدولة الإسلامية داعش، الذي استغل خيراتها أبشع استغلال. فبسبب موقعها الجغرافي القريب من الحدود العراقية ووجودها على طريق تجاري هام، إضافة إلى الذهب الأسود (النفط) الذي ينبع من منابتها، وسهولها الخضراء، كل ذلك حولها لفريسة ثمينة بالنسبة للطامعين.
فخلال فترة الحرب، تعرض اقتصاد المحافظة لأضرار كارثية، حيث بلغت نسبة الضرر في البنية التحتية نحو 67 بالمئة، فيما تضررت الوحدات السكنية بنسبة 18 بالمئة، مما تسبب في موجات نزوح كبيرة. ووفقاً لبيانات عام 2018، كان عدد السكان الذين غادروا المحافظة 263 ألف شخص، بينما عاد إليها 200 ألف فقط، مما جعلها من أكثر المحافظات السورية تصديراً للهجرة الداخلية.
اقرأ أيضاً: قنابل موقوتة في شرق الفرات!
الأهمية الاقتصادية لدير الزور
كان لنفط الدير دور كبير في الحصول على العملة الصعبة، إذ تعد ثاني أكبر محافظة منتجة للنفط في سوريا بعد محافظة الحسكة، كيف لا وحقولها تتكلم عنها مثل حقل العمر، حقل التنك وحقل الورد، التي كانت تُنتج نسبة كبيرة من النفط السوري، إضافة إلى أنها تضم احتياطيات من الغاز الطبيعي التي تستخدم في توليد الطاقة.
لم تكتفِ دير الزور بذلك فقط، فكرم أرضها كان يُطعم جميع السوريين من قمحها التي كانت سوريا تعتمد عليه جزئياً بالتعاون مع جيرانها في الحسكة، والرقة لتحقيق الأمن الغذائي. كانت المحافظة تنتج قبل الحرب ما نسبته 8.1 بالمئة من القمح السوري، و18.5 بالمئة من القطن، و6.1 بالمئة من الشمندر السكري، مما جعلها إحدى أهم المناطق الزراعية في البلاد.
ولا بد أنك سمعت بأغنام العواس التي تعد من أفضل السلالات في الشرق الأوسط، فدير الزور مشهورة بتربيتها وتصديرها للخارج، إضافة إلى الأبقار والجمال التي ساهمت بتوفير اللحوم والألبان للسوق المحلية والتصدير. كانت المدينة تحتفظ بثروة حيوانية ضخمة، إذ بلغ حجم قطيع الأبقار فيها 24.9 بالمئة من إجمالي القطيع السوري، والغنم 13.8 بالمئة، والماعز 8 بالمئة.
وعلى الرغم من كل الثروات والخيرات التي تم ذكرها، إلا أنها كما قلت سابقاً لم تبادل سكانها الوفرة، كانت الحقول النفطية في المحافظة تنتج نحو 125 ألف برميل يومياً عام 2010، إلى جانب 5 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي، و300 طن من الغاز المسال، إلا أن هذا الثراء لم يترجم إلى تنمية حقيقية، إذ ظلت الخدمات والبنية التحتية مهملة، مما أسهم في تعزيز الشعور بالتهميش لدى سكانها، على الرغم من دور المحافظة المحوري في دعم الاقتصاد السوري.
الوضع الحالي لدير الزور
اليوم دير الزور تنفض غبار الحرب عنها، إلا أن التطلعات والآمال كبيرة بتحقيق ما حاربت من أجله طيلة سنوات، وبالرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها كإعادة الإعمار، ونقص الخدمات واستمرار التوترات الأمنية، وعدم توافر الأمان بسبب انتشار الألغام ومخلفات الحرب، إضافة إلى هجرة أبنائها خارج المدينة وأحيانا خارج الدولة كلها، عدا عن معاناة أهلها في مخيمات النزوح، إلا أنه بجهود سكانها وإيمانهم بأرضهم الطيبة ستغدو من أهم المدن السورية، وأعتقد أن هذه الصورة كانت نداءً صامتاً بعدم نسيان أرض فيها هذه الخيرات من عمليات التنمية والازدهار، التي بالرغم من جراحها لا زالت تشكل المصدر الحقيقي للحياة لباقي المحافظات السورية.
اقرأ أيضاً: وزارة التربية والتعليم تعلن معادلة شهادات الحكومة المؤقتة