في بلدٍ تنهشه الأزمات السياسية والاقتصادية، كانت الثقافة دوماً تحاول البقاء على قيد الحياة، ترفع صوتها في وجه العنف، وتعيد رسم ملامح الأمل.. لكن في جديد القرارات السورية، صدر قرار مفاجئ، هبط كالصاعقة على رؤوس الكتّاب والمثقفين السوريين، وأعاد طرح سؤالٍ مزمن: هل باتت الثقافة مجرّد أداة أخرى تُدار من غرف السياسة المغلقة؟
أثار إعلان «الأمانة العامة للشؤون السياسية»، التابعة لوزارة الخارجية السورية، عن تشكيل مجلس تسيير أعمال جديد لاتحاد الكتّاب العرب، موجة غضب عارمة في الأوساط الثقافية السورية. فالخطوة التي وُصفت بأنها غير مسبوقة، جاءت وسط احتجاجات كثيرة رافقت استحداث هذه الأمانة أصلاً، لتصبّ الزيت إلى نار التشكيك في استقلالية المؤسسات الثقافية.
وضم مجلس تسيير الأعمال المعلن عنه كلّاً من: محمد طه العثمان (رئيساً)، محمد منصور، فدوى عبود، جمال الشوفي، محمد سعيد العتيق، مروة حلاوة، محمد صارم، محمود عساف، وحسن عبد الكريم.
ولاقت هذه الخطوة غضب وتذمّر الحقوقيين والكتاب والإعلاميين الذين اعتبروا الخطوة تطويقاً للثقافة وحرية الكلمة، وفي تعليقه على ذلك، لم يخفِ الكاتب والحقوقي ميشيل شماس استغرابه من دخول وزارة الخارجية على خط الشؤون الثقافية، متسائلاً عن الرابط المنطقي بين الدبلوماسية وتنظيم العمل الأدبي. وفي رأيه، فإن هذا التدخل يعيد إلى الأذهان الممارسات القديمة للقيادة القطرية لحزب البعث، التي كانت تضع يدها على كل مفاصل الحياة العامة، بما فيها الاتحادات والنقابات المهنية.
صلاحيات تثير قلق الكتاب والإعلاميين
ولم يتوقف الغضب عند أهل القانون، بل تعداه إلى الوسط الصحفي، حيث عبّر الصحفي عبد الله علي عن خيبة أمله، مشيراً إلى أن الأمانة العامة باتت تفرض وصايتها على قطاعات لا تدخل ضمن اختصاصها، ومنها تشكيل النقابات والاتحادات المهنية. ومن وجهة نظره، فإن ذلك يمثل تجاوزاً فاضحاً لقرار استحداث هذه الهيئة، ويُعدّ انقلاباً على مهامها الأساسية.
من جانبه، تناول الكاتب السوري عصام حوج الموضوع من زاوية تاريخية، مذكّراً بأن روابط الأدباء السوريين تشكّلت قبل عقود طويلة، حين لم يكن حافظ الأسد في المشهد السياسي بعد، ناهيك عن الوريث. وأكد أن هذه الروابط لعبت دوراً محورياً في تفعيل الحياة الثقافية، قبل أن تتحوّل إلى أدوات خاضعة للسلطة التنفيذية بعد استيلاء حزب البعث على مقاليد الحكم.
ويرى حوج أن تعيين مجلس جديد من قبل السلطة السياسية، بغض النظر عن أسماء أعضائه، ما هو إلا امتداد لنهج السيطرة على المجتمع المدني، وتكريس مبدأ التبعية بدلاً من الاستقلالية التي ينبغي أن تتمتع بها المنظمات الثقافية.
الجانب القانوني: بين النصوص والدستور
وفي منحى قانوني بحت، سلّطت الدكتورة رشا سيروب الضوء على مخالفة القرار الجديد للقانون الداخلي لاتحاد الكتّاب العرب، والذي لا يزال سارياً ولم يُعدّل أو يُلغَ. واستندت في اعتراضها إلى المادة 51 من الإعلان الدستوري المؤقت، مؤكدة أن القرار يتعارض بشكل صريح مع مبدأ استمرار القوانين النافذة.
سيروب اعتبرت أن العلاقة مع اتحاد الكتّاب ينبغي أن تتم عبر وزارة الثقافة، وليس وزارة الخارجية، داعية الحكومة إلى احترام التخصصات وممارسة عملها كجهة تكنوقراطية، لا سلطة تنفيذية تُصدر قرارات ارتجالية تُفرّغ العمل المؤسسي من مضمونه.
بيان رافض من اتحاد الكتّاب واستقالة عاجلة
وفي ردّه على الاجراء، أصدر الاتحاد بياناً: جاء فيه: «نعبر، نحن أعضاء الاتحاد، عن رفضنا القاطع لما جرى مؤخراً من تشكيل لجنة جديدة بديلة للجنة المنتخبة، دون الرجوع إلى قواعد الانتخاب الأصولية، ودون أي سند شرعي أو تفويض قانوني من الهيئة العامة. ونرى في هذا الإجراء مساساً خطيراً بجوهر العمل النقابي والثقافي، وتجاوزاً صريحاً لأعرافنا المؤسسية».
ودعا الاتحاد في بيانه، إلى «العودة إلى الشرعية المؤسسية، وإلى احترام إرادة الكتّاب الذين شكّلوا عبر عقودٍ صوتاً حراً في وجه الإقصاء والتهميش».
والموقف الأبرز كان من الأديبة وجدان يوسف أبو محمود، رئيسة فرع السويداء في اتحاد الكتّاب، التي قدّمت استقالتها فور صدور القرار، معتبرةً أن الخطوة تُعدّ «فرض وصاية» على مؤسسة لها تاريخ عريق. وفي نص استقالتها، انتقدت ما وصفته بـ«استباحة النظام الداخلي» و«زحف الكتبة والمدّعين» الذين يُعيَّنون بناء على الولاء لا الكفاءة.
وختمت وجدان موقفها بعبارة واضحة المعنى: «الولاء السياسي ليس معياراً للإبداع، ولن أكون شاهدة زور على هدر القيم الأدبية والنقابية».
ختاماً، لا بدّ من القول إنه حين تصبح المؤسسات الثقافية رهينة قرارات فوقية لا تُراعي تاريخها أو خصوصيتها، يصبح الحديث عن حرية التعبير واستقلال النقابات ضرباً من الترف الفكري.. فما يحدث اليوم لاتحاد الكتّاب العرب ليس مجرد تعيين إداري عابر، بل هو مؤشر خطير على مستقبل الثقافة السورية، التي كانت تتشبث بمساحة حرة، ولو على حافة الخطر. بانتظار الأيام القادمة، علّ السلطة القائمة توضّح مقاصدها أكثر، أو تضع حدوداً زمنية للمجلس الذي شكّلته بانتظار انتخاب مجلس من أعضاء الاتحاد.