لطالما تربعت الدراما السورية على عرش الشاشات السورية والعربية، بقصصها الاجتماعية الواقعية وبعدها الثقافي المميز، ورغم تواجدها بقوة على الساحة الدرامية اليوم، إلا أنه عدد كبير من الدرامات المختلفة بدأت تشاركها الشاشة، وأبرزها الدراما الكورية التي تسللت بلطف إلى قلوب المشاهدين العرب بمن فيهم السوريين، وتحولت إلى تيار جارف غزا العالم والشرق الأوسط، فكيف تمكنت الدراما الكورية من غزو الشاشات والقلوب بقوة ونعومة؟
حتى إن لم تكن متابعاً للدراما الكورية، فلا بد من أنك قد سمعت بمسلسل “لعبة الحبار” Squid Game الذي أثار ضجة عالمية عند عرضه في سبتمبر عام 2021، والذي تدور فكرته حول مئات الأشخاص الذين يتنافسون في سلسلة من الألعاب الطفولية على جائزة قدرها 40 مليون دولار، ولكن من يخسر يُقتَل!
حقق المسلسل نجاحاً هائلاً، ووصلت عدد ساعات مشاهدته إلى مليار و650 مليون ساعة خلال أقل من شهر، وصرّح رئيس نتفليكس حينها بأنه أنجح مسلسل في تاريخ البشرية، بل وربما أكثر عمل درامي تمت مشاهدته في العالم على الإطلاق.
وقد تجاوز تأثير المسلسل الشاشة، فمثلاً ارتفعت مبيعات أحذية “فانس” التي ارتداها أبطال العمل بنسبة 7800%، كما حاز على جائزة “إيمي” العالمية، وهذا المسلسل مجرد مثال عن قوة الدراما الكورية التي تمكنت من الانتشار العالمي على مدار سنوات عديدة.
اقرأ أيضاً: «معاوية».. المعادلة الصعبة بين الدراما والتاريخ
بداية الرحلة من كوريا إلى العالم بأسره
لم يكن طريق الدراما الكورية نحو العالمية مفروشاً بالورود، ففي ستينيات القرن الماضي، كان الإعلام الكوري يخضع لرقابة مشددة، لكن حدث تحول مهم عندما سمحت الحكومة بإنشاء قنوات خاصة مثل MBC وTBC، وهنا بدأت تظهر مساحة جديدة لإنتاج مسلسلات تتناول الحياة الاجتماعية الكورية بطريقة محببة على قلوب الكوريين.
وفي الثمانينيات، توسع البث التلفزيوني ليصل إلى 99% من البلاد، ثم جاءت التسعينيات، وبدأت القيود تخف، فظهر إلى جانب الدراما التاريخية والاجتماعية نوع جديد من الدراما الرومانسية والتي جذبت جمهوراً واسعاً، ومع ذلك لم تتعدّ حدود البلاد.
ولكن في عام 1994، حدث أمر غير متوقع، عندما عُرض الفيلم العالمي “جوراسيك بارك” jurassic park في كوريا الجنوبية وحقق نجاحاً كبيراً، وعادلت إيراداته بيع مليون ونصف سيارة من نوع هيونداي! هذا الأمر جعل الحكومة الكورية آنذاك تفكر بأن التلفزيون والسينما يمكن أن يكونا صناعة ضخمة، ووسيلة للنهضة بعد سنوات الحرب والدمار.
وجاءت الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، فانهار الاقتصاد الكوري واضطرت البلاد لاقتراض المليارات، ومن هذه الأزمة تولدت فكرة “عولمة الثقافة الكورية” التي ستنهض باقتصاد البلاد.
اقرأ أيضاً: التغير المناخي إلى أين في السنوات المقبلة؟
ومن هنا، بدأت أولى خطوات الدراما الكورية نحو العالمية، إذ عُرض في الصين أول مسلسل كوري What is Love، ووقع الجمهور الصيني في حبه، وبعدها بدأ جيل الشباب يتأثر بالثقافة الكورية من خلال المسلسلات والأغاني، بداية من صبغ الشعر وصولاً إلى افتتاح مول يوفر المنتجات الكورية، وأصبحت الدراما الكورية تُعرف باسم “الهاليو” أو “الموجة الكورية K-waves”.
وفي اليابان، فقد كان لفيلم Winter Sonata الأثر الأكبر، إذ عرض مدبلجاً إلى اليابانية وتحوّل إلى ظاهرة ثقافية كبيرة، حتى أصبح بطله نجماً شعبياً محبوباً تتدافع الفتيات اليابانيات لرؤيته.
وفي الشرق الأوسط وتحديداً في إيران، حقق مسلسل “جوهرة القصر” في 2003 نجاحاً مذهلاً، حيث وصلت نسبة مشاهدته في العاصمة طهران إلى 90%، ومن هناك انتقل إلى العالم العربي، فأحبه الناس في السعودية ومصر والأردن والكويت، وما ساعد في انتشاره حفاظه على القيم الأخلاقية التي تناسب المجتمع الإسلامي، ووصل أيضاً إلى أوروبا، وأمريكا، وأستراليا.
وفي عام 2016، حقق مسلسل “أحفاد الشمس” ملايين المشاهدات في آسيا، ونجح في تحقيق نسب مشاهدة قياسية، خاصة في الصين حيث تجاوزت مشاهداته ملياري مرة على iQiyi وأشعل منصات مثل Weibo، حتى أن السلطات الصينية أصدرت تحذيراً ساخراً من “حمى Song Joong-ki”.
اقرأ أيضاً: تحت سابع أرض: تعلّق به الجمهور فهل خذله في النهاية؟
ومع دخول نتفليكس إلى المشهد، ازدادت شعبية الدراما الكورية، خاصة خلال فترة وباء كورونا، وارتفعت نسب المشاهدة بشكل كبير، وتحوّلت الدراما الكورية من إنتاج محلي إلى صناعة عالمية، فمسلسل “هبوط اضطراري للحب” على سبيل المثال تم تصويره في سويسرا، وقد حقق المسلسل 1.75 مليار مشاهدة، ويعود جزء كبير من هذا النجاح إلى تصويره لحياة الناس في كوريا الشمالية.
واكتسح فيلم “باراسايت” الكوري أيضاً الأوسكار ونال أربع جوائز، وأصبح أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية ينال جائزة أفضل فيلم.
ووفقاً لتقارير نتفليكس في عام 2023، فإن 60% من مشتركي المنصة شاهدوا على الأقل مسلسلاً كورياً واحداً.
وبالطبع، لا يمكن إغفال دور الشعبية الهائلة لموسيقا الكيبوب التي ساهمت في جذب أنظار العالم إلى الدراما الكورية، مثل فرق “BTS” و“Blackpink” والتي قدمت عروض موسيقية لافتة جعلت الملايين حول العالم يتعلّقون بها، وهذا كان له دور كبير في تعزيز الموجة الكورية وانتشارها عالمياً.
اقرأ أيضاً: أفضل الهدايا التذكارية التي يمكنك شراؤها من سوريا
المسلسلات الكورية في 2025
منذ بداية 2025، شهد قطاع الدراما الكورية انطلاقة قوية، وواصل الجمهور متابعة مواسم جديدة من مسلسلات محبوبة مثل “لعبة الحبار” و”كلنا أموات”.
وأحد المسلسلات البارزة هذا العام هو مسلسل “مختبر البطاطس”، الذي يقدم كوميديا فريدة من نوعها تركز على مجموعة من العلماء الغريبي الأطوار الذين يكرسون حياتهم لأبحاث البطاطس.
أما مسلسل “عندما تمنحك الحياة اليوسفي” فهي دراما رومانسية مؤثرة تروي قصة حب تجمع بين شخصيتين في ظروف استثنائية، وتُظهر الصمود والقوة في مواجهة التحديات وقد حصل منذ بداية عرضه في 7 مارس على تقييم 9.3 على موقع IMDB.
اقرأ أيضاً: ضيافة العيد في دمشق.. تقاليد عريقة برائحة الياسمين
لماذا نحب الدراما الكورية؟
على الرغم من التنوع الذي تطرحه الدراما الكورية من الرومانسية والاجتماعية إلى الرعب والجريمة، إلا أنها تشترك بشيء واحد: المشاعر، وهذا الأمر يجعلها تلامس قلوب المشاهدين وتجعلهم ينظرون في أعماق قلوبهم وتشدهم للمشاهدة.
وما يزيد من تميزها هو المستوى العالي في كل جوانب الإنتاج من الصورة المبهرة إلى الإخراج الدقيق واللمسات الفنية وجمال الممثلين وبراعتهم في التمثيل، وبالطبع للموسيقا التصويرية دور كبير في الدراما، فقد تدندن أغنية ما في سرك لتتفاجأ فيما بعد أنك قد سمعتها في إحدى المسلسلات الكورية، والأجمل من كل ذلك، أنها غالباً قصيرة، لا تطيل السرد ولا تشتت المشاهد، فأغلب المسلسلات تكون من 16 حلقة أو 20 على الأكثر.
وتعقيباً على ذلك، تقول دفنا زور، أستاذة في الأدب الكوري بجامعة ستانفورد، إن سر انتشار الدراما الكورية عالمياً هو جودة محتواها، ومنصات مثل نتفليكس ويوتيوب، إضافة إلى الترجمات السريعة من المعجبين، جعلت الوصول إليها سهلاً، رغم صعوبة اللغة.
اقرأ أيضاً: الألعاب الإلكترونية المجانية: ملايين اللاعبين للألعاب الأكثر شهرة
كيف أثرت الدراما الكورية على المجتمع العربي؟
من الطعام إلى منتجات التجميل، وضعت الدراما الكورية لمساتها على جوانب حياة الشباب والفتيات العرب، فقد ساهمت في نشر المأكولات الكورية مثل “الكيمتشي” و”الرامن” و”الدجاج المقلي”، ووصل تأثيرها إلى حب تعلم اللغة الكورية، إذ تزايد عدد الأشخاص الذين يلتحقون بدورات تعليم اللغة الكورية.
إلى جانب ذلك، بدأت العديد من العادات الكورية تغزو الأسواق العربية، وتبنت الكثيرات أساليب المكياج الكورية المميزة والاهتمام بالمظهر، إضافة إلى التأثير الكبير في عالم الأزياء الذي أصبح يميل إلى البساطة والأناقة المستوحاة من التصاميم الكورية.
ومن الآثار المهمة، طرح قضايا اجتماعية حساسة مثل العائلة والاكتئاب والتنمر والفقر، التي لم تكن تُناقش بشكل صريح في المجتمعات العربية من قبل.
اقرأ أيضاً: اقتصاد السوق الحرة في سوريا: بين التفاؤل والواقع!
الكمال يعني الفشل!
على الرغم من الشعبية الكبيرة التي تحظى بها الدراما الكورية في المجتمع العربي، إلا أن هناك بعض الجدل الذي يحيط بها، مثل الاختلافات الثقافية، إذ يرى البعض أن بعض المواضيع أو العادات التي يتم تناولها قد لا تتناسب مع قيم وثقافة المجتمعات العربية، كما ينتقد البعض تصوير العلاقات والشخصيات بصورة مبالغ فيها، ما يخلق صورة خيالية قد يصعب تحقيقها في الواقع.
إضافة إلى ذلك، الإدمان على المشاهدة هو جانب آخر يثير القلق، حيث يقضي البعض ساعات طويلة أمام الشاشة لمتابعة الحلقات، ما يؤدي إلى التأثر العاطفي والتعلق الشديد بالشخصيات، وتعليقاً على ذلك، تقول رهف، 19 عاماً، لـ”سوريا اليوم 24″: أقضي حوالي 10 ساعات من يومي وأنا أشاهد المسلسلات الكورية، ولو كنت أشعر بالنعاس فلا يمكنني النوم دون أن أنهي الحلقة، أمي تغضب وترى أنها تؤثر على دراستي الجامعية ولكنني متعلقة بها كثيراً وسأظل اتابعها كل يوم، أشعر أن الأبطال عائلتي وأصدقائي”!
ختاماً، بسلبياتها وإيجابياتها، تظل رحلة الدراما الكورية نحو العالمية مصدر إلهام للعالم، وستبقى علامة فارقة في تاريخ الفن والثقافة حتى المستقبل.
اقرأ أيضاً: ما السرّ وراء عشق السوريين لـ«صابون الغار الحلبي»؟