كشفت مصادر مطلعة عن توجه المملكة العربية السعودية لتسوية الديون المستحقة على سوريا لصالح البنك الدولي، والتي تقدر بنحو 15 مليون دولار، ورغم أن المبلغ يبدو رمزياً مقارنة بحجم الدمار الذي خلفته الحرب، إلا أن هذه الخطوة التي لم يتم الإعلان عنها رسمياً بعد ولكن تتناقلها وسائل الإعلام، تحمل رمزية سياسية واقتصادية كبيرة إن صحت، إذ تزيل عقبة قانونية تعيق حصول سوريا على تمويلات دولية مستقبلية، خاصة في قطاعات حيوية مثل الكهرباء والمياه والخدمات العامة.
وتعتبر هذه المبادرة أول دعم مالي سعودي مباشر للحكومة السورية منذ التغيير السياسي الأخير، وقد تشكل نقطة تحول في تعزيز التعاون الخليجي مع دمشق، لا سيما بعد فشل مبادرات سابقة، مثل الاقتراح القطري بتمويل رواتب الموظفين، الذي اصطدم بالعقوبات الأمريكية الصارمة.
السياسة والاقتصاد: لعبة المصالح المتشابكة
تأتي المبادرة السعودية في وقت تعاني فيه سوريا من أزمة نقد أجنبي حادة، أدت إلى تعثر سابق في سداد الديون، حتى مع اقتراحات استخدام أصول سورية مجمدة بالخارج، فالعقبات لا تقتصر على الجانب المالي، إنما مرتبطة بالعقوبات الأمريكية التي تشكل سداً منيعاً أمام أي تقدم ملموس.
من هنا تكتسب زيارة الوفد السوري رفيع المستوى إلى واشنطن لحضور اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أهمية استثنائية، كونها أول اتصال رسمي بين مسؤولين سوريين وهذه المؤسسات منذ أكثر من عقد.
ويضم الوفد وزراء الخارجية والمالية والاقتصاد ومحافظ البنك المركزي، في محاولة لبحث سبل تفعيل الدعم الدولي لإعادة الإعمار.
لكن طبيعة التفاعلات الأمريكية مع هذا الوفد تظل غامضة، فالإدارة الأمريكية، المنقسمة داخلياً حول الملف السوري، لم تبد حتى الآن أي إشارات لاستعدادها لتخفيف العقوبات، رغم الإعفاءات المحدودة التي سمحت بوصول بعض المساعدات الإنسانية.
وينعكس هذا التوتر السياسي سلباً على الآفاق الاقتصادية، فالدعم المالي الدولي لإعادة الإعمار يرتبط بشروط سياسية وأمنية معقدة، بينما تصر دمشق على أولوية “رفع العقوبات” كشرط مسبق لأي تعاون جاد.
وفي هذا الإطار، قد تنجح المبادرة السعودية، إذا نفذت، في كسر الحلقة المفرغة بين المال والسياسة، عبر خلق مسار مواز يعتمد على الشراكة مع المؤسسات المالية الدولية، مع تجاوز العقبات القانونية التي تعيق ضخ الأموال.
اقرأ أيضاً: العداء الاقتصادي والازدواجية الغربية: متى ترفع العقوبات عن سوريا؟
الكارثة الإنسانية: واقع يفرض تحركاً عاجلاً
لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار دون ربطه بالواقع المأساوي الذي تعيشه سوريا بعد 14 عاماً من الحرب، فالبلد الذي كان يعتبر “سلة غذاء” المنطقة تحول إلى ساحة واسعة للدمار؛ وتدهور القطاع الصحي بشكل كارثي، حيث لا يتجاوز عدد الأسرة المتاحة 15 ألف سرير، أي ما يعادل سريراً واحداً لكل ألفي مواطن، بينما تعاني المستشفيات من نقص حاد في المعدات والأدوية، وهجرة الكوادر الطبية.
وفي قطاع التعليم، دمر أكثر من 10 آلاف مدرسة، مما أدى إلى اكتظاظ الفصول الدراسية وحرمان مئات الآلاف من الأطفال من التعليم، وارتفاع معدلات التسرب إلى مستويات غير مسبوقة.
أما البنية التحتية، فما زالت تعاني من تدمير ممنهج طال شبكات الكهرباء والمياه والطرق، بينما تفاقمت الأزمة بعمليات النهب المنظمة للمنازل المدمرة، حيث جرى سرقة مواد البناء وحتى الحديد من أسقف المنازل المهدمة.
هذه الصورة القاتمة تفرض تحركاً عاجلاً، لكن إعادة الإعمار ليست مجرد بناء جسور أو مدارس، بل عملية معقدة تتطلب إصلاحاً مؤسسياً واقتصادياً شاملاً، وإشراكاً فعلياً للمجتمع المحلي، وشفافية في توجيه الموارد لضمان وصولها إلى من يستحقها.
إعادة الإعمار: بين الطموح والواقع
تتطلع سوريا إلى استئناف التعاون مع المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي، الذي لا يقتصر دوره على تمويل مشاريع البنية التحتية، بل يشمل تقديم الخبرات الفنية لدعم الإصلاحات النقدية والمالية، مثل استقرار سعر الصرف، ومكافحة التضخم، وجذب الاستثمارات.
وهنا يأتي الدعم السعودي كعامل محوري، فالمملكة، عبر مركز الملك سلمان للإغاثة، تواصل تقديم مساعدات إنسانية مباشرة، مثل إدخال شاحنات المواد الغذائية عبر المعابر الحدودية، وتوزيع السلال الغذائية في محافظات سورية عدة، لكن هذا الدعم، رغم أهميته، يبقى جزءاً من حل أكبر يحتاج إلى رؤية استراتيجية.
وفي هذا الصدد، تشير التجارب الدولية إلى أن إعادة الإعمار الناجحة تعتمد على تحديد أولويات واضحة، مثل التركيز على القطاعات الإنتاجية القادرة على خلق فرص العمل وتحفيز النمو، كالزراعة التي تسهم بنحو 20% من الدخل القومي السوري، وتشغل مئات الآلاف من العمال.
كما أن تطوير هذا القطاع سينعكس إيجاباً على الصناعات الغذائية وقطاع النقل، مما يعيد تدريجياً الحيوية إلى الاقتصاد.
اقرأ أيضاً: وادي السيليكون في دمشق وتأمين 25 ألف فرصة عمل
طريق طويل نحو التعافي
لا شك أن المبادرة السعودية لتسوية ديون سوريا لدى البنك الدولي، في حال نفذت، تمثل بارقة أمل كبيرة، لكنها ليست سوى بداية لطريق طويل، فالتحدي الأكبر يتمثل في صياغة رؤية وطنية سورية لإعادة الإعمار، قادرة على توحيد الجهود الداخلية وتوجيه الدعم الخارجي نحو أولويات حقيقية، وهذا يتطلب إصلاحاً مؤسسياً، ومحاربة الفساد، وبناء الثقة بين الحكومة والمواطنين، فضلاً عن تعاون دولي يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.
والسعودية، من خلال هذه الخطوة، تؤكد مجدداً دورها كفاعل إقليمي رئيسي في تحقيق الاستقرار، لكن نجاح المبادرة رهن بتحولها إلى جزء من استراتيجية أشمل، تعالج جذور الأزمة السورية، لا أعراضها فقط، فإعادة إعمار سوريا ليست مسؤولية جهة واحدة، بل هي مهمة جماعية تبدأ بإخراج الشعب السوري من دائرة المعاناة، وتمكينه من إعادة بناء وطنه بكرامة وأمل.
اقرأ أيضاً: بحضور الشيباني.. مؤتمر العلا بالسعودية يناقش واقع سوريا الاقتصادي