غسان ياسين: ترحيل للاجئين أم ترحيل للأزمات؟

الجمعة 28 تموز/يوليو 2023

انتهت الانتخابات الكبرى في تركيا قبل شهرين ولم تنته معها موجة العنصرية ولا خطاب الكراهية ضد العرب والسوريين على وجه الخصوص، وما حدث في الأسابيع الأخيرة من ازدياد منسوب هذا الخطاب مع بدء عملية مكافحة الهجرة غير الشرعية في تركيا فجَّرَ معه كثيراً من الأسئلة، أسئلة يجب أن تُطرح بكل جرأة ومن دون مواربة ولا اختباء خلف شعارات لم تعد تجدي؛ لأن المشكلة وصلت إلى مراحل متقدمة وخطيرة نتيجة لخطاب كراهية متصاعد منذ سنوات تتبناه المعارضة ونتيجة لتقصير الحكومة في التعامل الحازم مع أصحاب ومروجي هذا الخطاب نتج عنها حالة استباحة مجتمعية غير مسبوقة للسوري في المجتمع التركي، ولم يعد يقتصر الأمر على تصريح هنا وهاشتاغ هناك، بل وصل الأمر إلى الشارع بعد أن هاجم شاب تركي مطعماً سورياً في حي شعبي داخل مدينة إسطنبول، وقام بتكسير المطعم وضرب أصحابه والعاملين فيه مع شتائم عنصرية وتهديد بالترحيل إلى سوريا، وتبيَّن لاحقاً أن الاعتداء لم يكن بسبب مشاجرة أو خلاف مع أصحاب المطعم، بل هو اعتداء على وجود مطعم يملكه ويديره أشخاص سوريون!

وفي حادثة أخرى قام شرطي بطلب رشوة من سوري ذهب لإتمام معاملة حكومية له ولعائلته في أحد المخافر، وخلال الحديث بينهما وللضغط على السوري قال الشرطي للسوري بكل وضوح: هل تعلم أنني أستطيع الآن ترحيلك إلى إدلب؟ ولأنه يحمل بطاقة حماية مؤقتة “كيملك” رضخ له ودفع الرشوة تفادياً لما هو أسوأ، تماماً كما فعل صاحب المطعم الذي اعتُدي عليه وعلى مطعمه حين رفض تقديم شكوى رسمية بحق المعتدي التركي، لأنه يخشى الترحيل، هاتان الحادثتان تعطياننا مؤشراً واضحاً على ما وصل إليه حال السوريين في تركيا بعد عقدٍ على وجودهم فيها. المعارِضةُ التركية والمعروفة بخطابها العنصري تجاه السوريين إلاي أكسوي اعترضت على قيام شاب سوري بإزالة اسم ضابط تركي كُتب على مدرسة في شمالي سوريا، ووصفت الشابَّ بالإرهابي، في وقت تشن فيه بعض البلديات حملة كبرى في عدة مدن تركية لإزالة الكلمات والحروف العربية من واجهات المتاجر التي يملكها عرب، أكسوي نفسها التي ذهبت إلى دمشق لتروّج لسوريا الأسد الآمنة، وهي نفسها التي أرادت قبل سنوات تحرير حيّ الفاتح من السوريين، بعد أن جالتْ في الحيّ واستنكرتْ وجودَ محالَّ للسوريين هناك، وهدّدت أرزاقهم ومحالَّهم. وهنا يحضر السؤال بقوة؛ من الذي أعطاها الحق بوصف مواطن سوري يعيش في شمالي سوريا بالإرهابي، في الوقت الذي تقوم فيه بالفعل ذاته داخل تركيا؟

أوميت أوزداغ هو الآخر لم يتوقف يوماً عن خطابه الذي يهدد الأمن المجتمعي والذي طال سوريين وأتراكاً، لكنه إلى اليوم يصول ويجول ويهدد الجميع على وسائل التواصل من دون أي رادع.

يُصرّ مسؤولون أتراك على أن الحملة لا تستهدف السوريين فحسب، بل المهاجرين غير الشرعيين، وهنا يحضر سؤال آخر: من هو اللاجئ – المهاجر غير الشرعي؟ هل السوري الذي لا يحمل بطاقة حماية مؤقتة ينطبق عليه توصيف المهاجر غير الشرعي مما يعني قانونية ترحيله إلى شمالي سوريا؟! بالتأكيد لا يمكن وصفُ أيّ سوري مقيم في تركيا أو أي دولة في العالم بالمهاجر غير الشرعي؛ لأنه باختصار مهجَّر قسرياً، ولا يمكن تغيير هذه الصفة قبل التخلص من مسببات تهجيره القسري، ويأتي في مقدمتها وجود نظام الأسد بعد كل جرائمه التي وُثّقت بشكل غير مسبوق والتي لم تتوقف حتى اليوم بطبيعة الحال، وهذا يعني عدم وجود بيئة آمنة لعودة طوعية كما نصّتْ عليها كل القرارات والمواثيق الدولية، فلا يمكن إجبار مواطن من درعا أو ريف دمشق على الذهاب إلى تل أبيض أو جرابلس مثلاً لأنه ببساطة يريد العودة إلى مدينته وبيته، وطالما أنَّ الظروف المناسبة لهذه العودة لم تتحقق لا يمكن إجباره على ترك تركيا أو لبنان أو الأردن.

حملةُ الترحيل هذه كشفت عن مدى التخبط في التعامل مع ملف السوريين في تركيا، تخبّطٌ سببُه الرئيسي عدم قوننة الوجود السوري وأيضاً الرضوخ لمزاج الناخب التركي بشكل أدى إلى استباحة السوريين بهذا الشكل، استباحة أدت إلى استنكار عربي وصل إلى حد إطلاق حملات تهدّد بمقاطعة البضائع التركية ومقاطعة السياحة في تركيا، وكما هو معروف يأتي السياح العرب في مقدمة السياح الأكثر إنفاقاً، وفي ظل هذا الجوّ المشحون يجب أن يعرف صناع القرار في تركيا أن علاقتهم مع الحكومات العربية شيء ومع الموطن العربي شيء آخر، فلا يمكن أن يشعر العربي بالسكينة في تركيا وهو يشاهد هذه الحملة على الحرف العربي وعلى  كل ما هو عربي، لدرجة أن أحد نواب المعارضة بالبرلمان خرج محذراً من السماح للعرب بالتملك في مدن البحر الأسود؛ لأنهم يخططون لإنشاء إسرائيل جديدة في تركيا! فالمواطن العربي وبغضّ النظر عن علاقة حكومته مع الحكومة التركية هو السائح وهو المستثمر وسببٌ رئيسي من أسباب إعجاب العرب بتركيا في آخر عشر سنوات هو التعامل الجيد والبيئة المرحّبة، إضافة إلى مقومات سياحية واستثمارية مُغرية، لكن في حال لم يتم ردع هؤلاء ستنزلق الأمور وتخرج عن السيطرة وسنشهد عزوفاً عربياً عن تركيا، وهذا ما لا يتمنّاه قسم كبير من الأتراك والسوريين بطبيعة الحال.

السؤال الأهمُّ اليوم الذي يجب طرحه في كلّ اللقاءات والنقاشات التي تجري بين السوريين والمسؤولين الأتراك، سواء في اللقاءات العلنية أو تلك التي تجري بعيداً عن الإعلام: لمصلحة مَنْ يتم خلقُ أعداء سوريين لتركيا سواء من هم في المنافي أو في شمالي سوريا؟ فالسوريون اليوم نتيجة لوجودهم الكثيف في كثير من دول العالم باتوا قوةً مجتمعية مسيّسة لا يستهان بها، ولهم حضور قوي في الإعلام العربي أو الغربي أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أميركا هناك جالية سوريّة قوية باتت اليوم تشكّل “لوبي” فاعلاً ومؤثراً في السياسات الأميركية المتعلقة بسوريا والشرق الأوسط، وفي أوروبا بدأت تتشكل نواة لوبي / لوبيات على غرار اللوبي السوري في واشنطن.

إن المجتمع السوري في المنافي المتعددة يشعر بمعظمه بالامتنان لتركيا على كلّ ما قامت به منذ بداية الثورة وحتى اليوم، وكان هو خيرَ سفير ومُروّج لكل ما قامت به تركيا تجاه السوريين، لكنْ ما يحدث مؤخراً قد يقلب المعادلة، وتصبح هذه الجاليات قوة ضغط على تركيا، لأن القيام بنشاطات إعلامية وحقوقية وتظاهرات في عموم أوروبا وأميركا أمرٌ سهل ومتاح، وقد تضطر هذه الجاليات للقيام بهذه الحملات لأجل تسليط الضوء على حملات الترحيل الحاصلة وعلى استباحة حقوق السوريين بشكل غير مسبوق في تركيا.

في شمالي سوريا أيضاً هناك استياء كبير مما يحصل للسوريين في تركيا، فلكل شخص مرحّل أو مهدد بالترحيل عائلةٌ وأصدقاء له في الشمال، وإن كانت حادثة الشاب الذي أزال العبارة التركية من على واجهة المدرسة في شمالي سوريا رداً على إزالة اللافتات العربية في تركيا حادثة فردية فما الذي يضمن ألا تتدحرج هذه الحادثة مثل كرة الثلج لتصبح حملة واسعة لإزالة اللافتات التركية من شمالي سوريا؟ ومن يضمن أن لا ترتفع المطالبات لتشمل جوانب أخرى من جوانب الوجود التركي في سوريا!

مشاهد الأسى والحسرة والغدر حاضرة في وجوه المرحَّلين وعيونهم، الشابُّ العشرينيُّ الذي عاش سنوات في تركيا تفوق ما عاشه في سوريا ماذا سيفعل في تل أبيض؟ وكيف سيجد عملاً هناك؟ ومن يضمن ألا يكون فريسة سهلة للمنظمات الإرهابية سواء داعش أو ميليشيات قسد وتوابعها لتجنده ويصبح تهديداً لتركيا وسوريا معاً؟ والرجل الذي رُحِّل وأبعد عن زوجته وأولاده رغم امتلاكه وثيقة حماية مؤقتة نظامية كيف ستكون حاله بعد أن وُضع في منطقة لا عملَ ولا أمانَ فيها وفوق هذا هي عُرضة للقصف؟ ومن يضمن أن لا تجبره الظروف على العمل في الممنوعات، أي أن يصبح مجرماً وخطر إجرامه سيعبر الحدود لاحقاً، المرحّل المقهور يشاهد وهو يدخل من معبر باب الهوى سورياً آخر مصاباً بالسرطان ينتظر السماح له بالدخول لتركيا لاستكمال علاجه، لأن الشمال يفتقر إلى مشفى تخصصي، ويفتقد معه كلَّ مقومات الحياة الآمنة والمستقرة.

الخطاب التطميني لم يعد كافياً لوقف هذا الجنون العنصري، وما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً رداً على حملة العنصرية ضد اللاجئين والعرب كان جيداً لكنه بحاجة إلى ترجمة عملية، ترجمة تأتي عبر سنّ قوانين جديدة تحمي اللاجئ من خطاب الكراهية ومن ممارساتٍ بحق حملة وثيقة الحماية المؤقتة بسبب وجود ثغرات واضحة في قانون الحماية المؤقتة. النائب في البرلمان التركي عن حزب العدالة في ولاية غازي عنتاب السيد علي شاهين قال في تغريدة له “إنَّ الحلَّ بإنشاء وزارة للهجرة على غرار الدول المتقدمة” قد يكون هذا الإجراء حلاً مناسباً بعيداً عن الحل الأمني المتّبع حالياً، فلا ينبغي النظر والتعامل مع السوريين من وجهة نظر أمنية فقط بعد أن صاروا جزءاً مهماً وفاعلاً في تركيا، ولديهم مصانع واستثمارات وحضور كبير في كل المجالات الاقتصادية والثقافية.

أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات عملية تفادياً لِما هو أسوأ، وهو ما لا يتمناه أيُّ سوري، لأن السوريين معنيون بأمان تركيا واستقرارها، ولا يرضيهم أن تتصاعد حملة المقاطعة العربية، وفي الوقت ذاته هناك ضغط نفسي كبير يُمارَس بحق ملايين السوريين شمل حتى من يحملون الجنسية التركية، بسبب الشعور بالتهديد وعدم الاستقرار وبسبب الاستباحة التي جعلت شاباً تركياً يهجم على محلّ سوري بلا سبب، وجعلت شرطياً يطلب رشوة بكل برودة أعصاب مع تهديده للسوري بالترحيل. السوريون يرفضون خطابَ المعارضة التحريضي الذي أوصلَ الحال إلى ما هو عليه، لكن اليوم لم تعد مشكلتنا مع ما تقوله المعارضة بل مع ما تفعله الحكومة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات أخرى للكاتب

سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.