عبد الله ديب: ليلة عيد سوريّة جداً

الجمعة 12 نيسان/أبريل 2024

(يفرض الناس أن تكون لنا مهنة ما – كما لو أن نحيا ليس في حد ذاته مهنة – بل وأشد المهن صعوبة) إميل سيوران – غسق الأفكار

بعد سنوات من الخدمة، ودّع هاتفي الحياة دون سبب محدد، ببساطة توقف الجهاز عن العمل، أو كما تقول أمي “طَب لا من تمه ولا من كمّه”، اضطررت على إثر ذلك لنقل شريحة الهاتف لهاتف جديد آخر، وللتأكد من أن العملية تمت بنجاح دخلت إلى سجل الهاتف الذي لم أزره منذ زمنٍ طويل للتأكد من أن أرقامي قد انتقلت للهاتف الجديد.

قلبتُ في الأسماء، وتقلب بي الزمان، مرّت عيني على أسماءٍ ودّعَ حاملوها هذه الحياة، منهم من عرفته على وسائل التواصل الاجتماعي (سكايب، فيسبوك، ولاحقاً تويتر، أو ما بات يعُرف اليوم بمنصة X) ومنهم من جمعتنا بهم الثورة وأحلام الربيع الكبيرة، وكثرٌ منهم أقارب وأصدقاء قدامى، تذكرتُ كل واحدٍ منهم، مظهره وأحلامه، واستذكرت كيف رحل، ما يُقارب النصف منهم قُتلوا بشكل مباشر على يد النظام السوري. والنصف الآخر قتلهُم النظام أيضاً بشكل غير مباشر؛ يوم دمّر حياتهم، إذ سرق أرزاقهم وبيوتهم وهجَرهم من مدنهم وقتل بعض أبنائهم، وتكفلت حياةُ العوز والقهر بأن تسحق عافيتهم وتسبب لهم أمراضاً مزمنة في سنٍ مُبكرة، ولم تُكتب لهم الراحة إلا بالرحيل عن هذه الدنيا.

لاحظت خلال هذه الزيارة القصيرة لسجل الهاتف أن فيها تأريخاً بسيطاً لما حصل، أول من غادرنا من الأسماء قضوا نحبهم أيام الثورة السلميّة، قُتلوا خلال مشاركتهم في المظاهرات المطالبة بالحرية والكرامة برصاص الجيش وقناصيه، ومنهم من قُتل خلال مشاركته في معارك التحرير، وبعض الأسماء اغتيلت على يد التنظيمات الإرهابية المتطرفة، يوم كانت داعش وأخواتها يعيثون فساداً فيما عُرفت تسميته بـ”المُحرر”، ومن تبقى فقد تكفّل بهم القصف العشوائي من براميل وصواريخ وقذائف. أما أولئك الذين تواطأ النظام والقهر على قتلهم، فلم يمُت واحدٌ منهم في بيته ومدينته، كلهم – حرفيًاً كلهم – غادرونا إما في بلاد المهجر أو في مناطق النزوح من قرى ومخيمات.

الناجون منّا أو من تبقى

بعد هذه الجولة الداميّة في الذاكرة، وعلى مبدأ “الحي أبقى من الميت”، قررت المبادرة هذا العام بالاتصال بالأهل والأقارب مهنئاً بقدوم عيد الفطر، وبعد اتصال مع الأخوال والخالات وأبنائهم، والأعمام والعمات وأبنائهم، انقدحت في عقلي لعبة طفوليّة، في محاولة لحصر البلدان التي اتصلت عليها خلال هذه التهنئة. وتبيّن أن القائمة شملت البلدان الآتية: (ألمانيا، هولندا، بريطانيا، أمريكا، كندا، تركيا، السعودية، قطر، لبنان، الجزائر، الأردن، سوريا). خرجت بنتيجة لطيفة ومؤلمة مفادها أن عائلتي تتوزّع على 12 بلداً. وسّعت الاتصال قليلًا لتهنئة الأصدقاء المقربين جداً فزادت على القائمة 5 بلدان إضافية (السويد، النرويج، فرنسا، العراق/أربيل، مصر). وهكذا يصبح الاستنتاج أن عائلتي وأصدقائي المقربين يتوزعون على 17 بلداً! أليست هذه الحالة مشابهة بل مطابقة لكثير من السوريين؟ بالتأكيد. ولا يخفى أن قائمة الناجين متشابكة جداً بقوائم الراحلين، هي علاقة الأب بالابن، والزوجة بزوجها وأبنائها، إنها شجرة عائلة، ضربها الخريف، قسمٌ منها ارتقى، وقسمٌ بقي متشبثاً يصارعُ الحياة والذاكرة.

للخروج من هذا الطقس الجنائزي والطفوليّ، فتحت منصة يوتيوب واستمعت لأغنية “يا ليلة العيد” لأم كلثوم، فكلُ الراحلين الذين عرفتهم في حياتي، حتى أشدهم تديّناً، كانوا سوريين جداً، يحبون المرح والسهر وتبادل النكات والضحكات، وفرحة “ليلة العيد”.

لكن ولأن النكد فيَّ طبعٌ أصيل، تذكرت ما قالهُ بطلُ دوستويفسكي في الجريمة والعقاب إن “الإنسان يعتادُ كل شيء. يا له من حقير”. دافعت نفسي عن ذاتِها مستذكرةً قول الراحل ممدوح عدوان: “نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا. وتصوّر حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كل ما حولنا”. آه يا ممدوح لو تعلم حجم ما مات فينا!

مقالات أخرى للكاتب

سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.